الجمعة، 24 يناير 2020

قراءة في نص "بيان عادي في انثى استثنائية" للاديب سامح كعوش...



تأسرني المسافة دائما بكل تأويلاتها وابعادها... وهذا النص "بيان عادي في أنثى استثنائية" يحتفي بالمسافة ما بين الانثى والذكر بكامل بهائها... المسافة التي تشكل اهم مكونات هذه الحياة فالحياة بدأت بذكر وانثى... بثنائية الاضداد تلك التي تميز الخالق عن المخلوق فالخالق واحد أحد وما عداه أنصاف...  واهم هذه الانصاف هما ادم وحواء بالمطلق...منذ البدء حتى الختام وهذا النص يبحث في العلاقة المعقدة بينهما...ولهذا حرص الكاتب على تعريفهما ب"ذكر" و"انثى" ليضفي على النص ابعاده المرجوة.... 

((عندما يتشكّل الطفلُ الذكرُ في رحمِ أمّه، تنعقدُ صلةٌ غريبةٌ بينه وبين النساء، صلةٌ تجعله في لا وعيه مسكوناً بكل نساء الأرض، مأسوراً برغباتهن الغريبة، وغواياتهن الأكثر غرابة، فاهماً أبسط احتياجاتهنّ، مسلّما بها، ومستسلماً لها.))

رغم ان العلاقة بين الذكر والانثى بدأت منذ بداية  الخليقة حين قرر الخالق أن يشكل بيديه "ادم" ويخلق له "حواءه" الا ان الكاتب بدأ نصه بالتشكل في رحم امه... ليقول ان الصلة بدأت من هنا... والحقيقة ان هذه البداية هامة لانها اعطت للنص خصوصية هامة مبتعدا عن الظلال التي قد تضفيها حكاية الخلق التي لا ندري حقيقتها تماما على هذه العلاقة الشائكة... اذا تبدأ المسافة بينهما بهذا القرب الفائق القوة ... تشكل الذكر في رحم الانثى... علاقة وجود تكون فيها الانثى هي المهيمنة كمانحة للحياة فالطفل الذي يتشكل بالرحم اي يختبئ في جسد الانثى "يتشكل" وكأن هذه المفردة تعطينا صورة عميقة جدا لبداية هذه العلاقة فأن يتشكل انسان في داخل انسان فهو بهذا مدين له بوجوده جسدا وروحا....ورغم انه اعتبر ان هذا "التشكل"سببا في "صلة غريبة بينه وبين النساء" وهنا جمع "امه" بالنساء اي بكامل العلاقات التي ستربطه بالانثى في المطلق..الام ، الابنة، الزوجة او الاخت... وما في مقام هذه العلاقات كالحبيبة او الحفيدة ... لكن لماذا "صلة غريبة" ... لنرى "تجعله في لاوعيه مسكونا بكل نساء الارض" واختيار اللاوعي مهم جدا هنا ليضفي شرعية لتحول هذه الصلة وتنوعها فيما بعد... "الرغبة" و"الغواية" و"الحاجة" هل حقا هناك من يفهم كل هذه الامور عن امرأته ؟؟ فما بالك بنساء الارض ؟؟؟ وهل حقا التفعال "مأسور" و"فاهم" و "مسلم" و"مستسلم " وكأن هذا التشكل وهذه الصلة في اللاوعي تكون في بدايتها علاقة طاعة استسلام وتفهم ....وهنا نعود للمسافة هل المسافة "القريبة جدا" تغلبت على الفروق بين الذكر والانثى واوجدت هذا التناغم بينهما ؟؟ التناغم في اللاوعي ؟؟؟

((عندما يتشكّل الطفلُ الذكرُ في رحمِ أمّه، يتشكّلُ زهرةً، فلةً، سوسنةً، يتسلّح بما لديها من حنان يكفي الكون، ومن عطفٍ يروي صحارى النفوس الفارغة والقلوب المتحجرة، والوجوه المتكسّرة في مراياها.))

رغم ان الكاتب كان من الممكن ان يستغني عن الكلمات "زهرة، فلة وسوسنة" الا اننا نستطيع ان نستعير من هذه الكلمات ان عمر الجمال قصير تماما كعمر تلك الاشياء الجميلة التي نبدأ بها الحياة فنبدأ بقلوب صافية لا تحمل سوى الحنان والعطف وكل الاحاسيس الجميلة التي نبدأ بها الحياة قبل ان تعيد تشكيلنا ... والام دائما مرتبط وجودها في حياتنا بهذه الكلمات "الحنان والعطف" لانها بداية هذه العواطف واهم ما فيها... 


((عندما يتشكّل الطفلُ الذكرُ في رحمِ أمّه، يستمدُّ إرادة بقائه من رغبةِ أبيه في لحظة شغفه بأنثاه، وولوجه فيها، فلا يبقى من تلك اللحظة إلا فيض الحب الذي تدفق في صخرها من نبعه، وروى صحراءها بماء شغفٍ أزليٍّ اغتسل بالشمس.
عندما يتشكّل الطفلُ الذكرُ في رحمِ أمّه، يقرأ أفكارهما معاً، ويراهما معاً واحداً شهياً مشتهى، ومنتهى في العشق حتى آخر مداه، صلتُه بهما روحٌ تتكوّن، وترديدُ ما ينصتُ إليهِ منهما، ولا تحدّهُ يداه.))

هذا المقطع ذكرني بما قراته عن تشكل وعي الجنين في رحم امه وعن احساسه بها... وهنا يبتعد هذا الطفل الذي يتشكل بالرحم ليرى صورة اكبر...ليرى الام والاب معا... ليشعر بهما بتلك اللحظة التي اوجدته ..."لحظة شغفه بأنثاه" بافتراض ان العلاقة التي اوجدت هذا الطفل علاقة "شغف" و"عشق" والمقطع هنا الحقيقة استوقفني لغرابة الوصف "تدفق في صخرها من نبعه" والمفترض العكس..فالمرأة دائما ما تتصف بالخصوبة لا "الصخر" و"الصحراء" ولكن لنتابع ما يشعر به "الطفل الذكر" حيال ابويه.... "يقرأ افكارهما معا" ويراهما معا " صلته بهما روح تتكون ....وكأنه بهذا يعطينا صورة تلك العلاقة وهذا الوجود ما بين التشكل وما قبل الولاده وهي مسافة شهور تعطي للطفل الكثير مما يستطيع ان يحسه او ينصت اليه ... لكن " لاتحده يداه" وهذا ما اثبته العلم وليس فقط النصوص الرومانسية ... فالطفل يستطيع ان يشعر بأمه واحاسيسها ...وعلاقتها بالاخرين ... وبالطبع علاقتها باهم الاشخاص وهو الزوج او الاب... وكل هذه التعابير تقود مسافة اخرى ما بين الانثى وطفلها كمسافة قريبة وايضا الطفل وما يبعده عن والديه اي المسافة الزمانية للولاده وهي اهم المسافات التي تشكل لا وعينا بعلاقاتنا الهامة بالاخر....

((عندما يخرجُ الطفلُ الذكرُ من رحم أمّه، يُحرمُ من دفءِ لحمها وفيض مائها وغذاء دمها، حتى الهواء الذي يتنفس لا يعود يكفيه بذرات أوكسجين ملوثة، ملوّنة بالغبار))

العبارة اعلاه سبقت تحول النص من العام الى الخاص... من الحديث المطلق الى الحديث الخاص المعبر عن الذات... وكانه انفصال اخر فانفصال الطفل عن رحم امه جعله يحرم من الدفء والماء والغذاء، واخرجه الى هواء ملوث ومليئ بالغبار... فهل هذا ما فعلته الحياة بنا كبشر او هذا ما فعلته الحياة بالكاتب ...

 ((هكذا أنا في علاقتي بكِ، والتصاقي فيكِ، واشتهائي لكِ، وانتهائي إليكِ، أنا ذكرُ الحرمان والانتظار القاتل، ذكرُ الهشاشة والبشاشة معاً، الذكرُ المتقلّب بين المضحك والمبكي، يُعلنُ البهجةَ ولا يقوى على أن يذرفَ دمعة تحزُّ شرايينَ روحه الحيرى.))

في هذه العبارة يجمع الكاتب علاقته بالانثى في عبارة مكثفة "علاقتي بك" وهنا لم تعد الانثى هي الام فقط التي يتشكل في رحمها، وانما الانثى بالمطلق، يجمع بهذه العبار جميع العلاقات التي تربطه بالانثى واهمها طبعا الام "التصاقي بك" ولهذا بدأ به ثم الحبيبة "اشتهائي لك"... ليقدم لنا صورة تناقضاته هو ليس في  علاقته بالانثى وحدها وانما بهذا الكون ... "ذكر الحرمان..الذكر المتقلب..." وقد تكون هذه الصور جميعها نتيجة حتمية للعلاقة الاصلية بالانثى الا انني سأتوقف هنا عند عبارة " لا يقوى على ان يذرف دمعة تحز شرايين روحه الحيرى"  نحن نعرف جميعا ان الرجل لا يبكي بسهولة وانه يخفي دمعه ... وان الدمعة للرجل قاسية واننا في مجتمع لا يعطي للرجل هذه الفرصة ليخرج ما في داخله... والحقيقة ان هذا لا يعود بشكل كامل للعادات الشرقية التي تعطي للرجل صورة القوي والمهيمن وغير القابل للانكسار....وانما تعود بشكل عام لطبيعة خلق الرجل فالرجل خلق من طين... من مادة خلقه الاولى ... وطبيعته قاسية تنتقل بحدة ما بين الانفعالات ... بعكس المرأة التي خلقت من ضلعه اي من المادة بعد تحولها ...فاخذت طبعا اقل قسوة واكثر رقه وقدرة على التعبير عن انفعالاتها بعكس الذكر...

((عندما يخرجُ الطفلُ الذكرُ من رحم أمّه، يخبّئُ الزهرةَ في قلبه ويُعلنُ القسوة، اللا ألفة، التحفّز الدائم ضدّ كل شيء، للا شيء.
عندما يخرجُ الطفلُ الذكرُ من رحم أمّه، يخجلُ من رغبةِ أبيه ولا يعترف بأنّه ثمرتها، ينحاز إلى الوسيلة ولا يرى الغاية، ينحاز إلى الصخرة ويدير ظهره للنبع، يتوضأ بماء حياةٍ تكره نفسها، تبغضُ تكرارها ورتابتَها، ولا تغتسل بالشمس.))

ترى هل تُقرأ النصوص بعيدا عن اصحابها ؟؟ بالطبع فلا يتأتى لنا ان نعرف اصحاب النصوص  الا فيما ندر ونقترب من النصوص التي تأسرنا بتاويلاتها المتعددة ومسافاتها التي تقترب فيها من حياتنا وافكارنا... النصوص التي تدهشنا او تدعونا للتساؤل هي النصوص التي تستحق القراءة والتوقف عندها....قرات الفقرة عدة مرات وحاولت التعرف على ملامح كاتبها ولم افلح هل هو الذكر في المطلق ؟؟؟ ربما فالرجل ينحى للتحلي بالصورة المرسومة له مسبقا... القسوة والتحفز الدائم....وبدون الخوض بمعنى كل مفردة الا ان الفقرة بالمجمل تعطينا الصورة التي كبر عليها هذا الطفل الذكر...الصورة التي تشكل ملامح الرجل بالمجمل والشرقي بشكل خاص...فالعبارة المكررة " الطفل الذكر"  اتت  بشكل متعمد وواضح وكانها بتكرارها الكثير في النص تعطي لعبارة "انثى استثنائية " في العنوان توازن هام جدا ... وهنا اود ان اشير الى ان الخالق في اعطائه صفة من صفاته وهي اعظم الصفات "الخلق" للانثى يعطيها توازن يعيد اليها ما اخذه "الذكر" من حقوق كثيرة ومن يفهم هذا التوازن سيعرف انه رغم ان المجتمع واللغة وكثير من الامور "ذكورية" الا ان الانثى كانت وستظل معادله له بل انها مفضلة عليه بهذه الصفة البالغة الخطورة والاهمية وان المرأة بمطالبتها بالمساواة تقلل من قيمتها الحقيقية وتسعى لاخذ القليل المعطى للذكر....

((عندما يخرجُ الطفلُ الذكرُ من رحم أمّه، تحدّهُ أفكارُه ويداهُ، وعيناهُ وخطوُهُ، فلا يقرأُ أفكارهما معاً، ولا يراهما واحداً حين يتضادانِ، يفترقان أو ينقسمان أو يقتسمان أو يحترقان، يقعُ لاحقاً في انعكاس الصور وتشظي الوجوه والفكرة، يقعُ لاحقاً في العِبرة.))

في هذه العبارة لخص الكاتب عقدة النص واهم ما فيه بل ربما سبب كتابته له ... وهنا رغم ان العبارة تتحدث عن خروج الطفل من رحم امه الا انها تذكر كل "ذكر" على وجه الارض ... تحده افكاره ويداه...وعيناه وخطوه...هل يحتج الكاتب على مصير الذكر المحتوم او ينتقده ؟؟؟ هل يفصل نفسه عن هذا الطفل ام يلتصق به ؟؟؟ هنا وان بدا الحديث عن الابوين... الا انه ينطبق ايضا على صورة الذكر في حياته القادمة... "يقع لاحقا في انعكاس الصور" نعم يقع في نفس الاشكاليات التي وقع فيها الذكر سابقا وسيقع فيها لاحقا.... العلاقة الغريبة بين الذكر والانثى منذ البداية وحتى النهاية ستبقى مأزومة وتحتاج  الى الكثير من التامل حتى نفهمها ولكن هل نفهمها ؟؟؟ ربما ولكن هذا الفهم بالتأكيد سيأتي متأخرا جدا ...او  حتى "يقع لاحقا في العبرة" والعبرة لا تأتي الا متأخرة جدا تأتي نتيجة طريق طويل وعلاقات متشابكة ....

((هذا الطفلُ الذكرُ الذي يتشكّل في رحمكِ، حلمِك، لحمكِ، لا تخرجيه إلى الحياة ليموت.))

 هل كل حياة موت ؟؟ نعم فكل حياة بداية لطريق ينتهي بالموت... ولكن هنا موت كل الاشياء الجميلة التي تفتحت في قلب "الذكر" اثناء التصاقه بالانثى او بشكل خاص برحم الانثى....الرحم الذي يعطينا كل اسباب الحياة والدفء والمحبة ...الرحم الذي يشكل لنا درعا في مواجه الحياة التي تقتل اعمارنا من لحظة الولادة ...الحياة التي تشكلنا بعكس ما نكون عليه... تاخذ منا البراءة وتعطينا ارثا بشريا ملوثا بكثير من المفاهيم الخاطئة ... لا يغيب عن الكاتب كل ما تفعله الحياة بنا ... فهي تغير سلوكنا وتحد افكارنا وتقلم اظافرنا وتأسر ارواحنا الحياة التي لا تعطينا ما نريد وترسم لنا ما تريد... الحياة التي لا يجب ان نتعامل معها باستسلام بل بحرب دائمة لنحافظ على ارواحنا بريئة او على الاقل معافاة من تلوثها...العبارة " لا تخرجيه الى الحياة ليموت" قاسية لكنها حتمية ... مؤلمة لكنها هي الوجود ذاته.... 

الجمعة، 16 نوفمبر 2018

بين بابين رواية  "بدر أحمد"

المرة الاولى التي اقرأ بها للكاتب اليمني "بدر أحمد" والحقيقة أن اقتنائي للرواية كان بتوصية من الناقدة الصديقة هدى جولاني ورغم أنني بت اتوجس من الكتب ذات الاصدار الحديث والتي اصبحت تباع كما تباع المنتجات الزراعية في سوق الخضار لكثرة من "يعتبرون انفسهم كتاب" ولكثرة تدني عملية النشر الى مجرد تجارة ولم تعد كالسابق عملية هامة في البنية الادبية والثقافية للمجتمعات...  لكن الرواية وصدقاً امسكتني حتى النهاية رغم أن البداية مربكة قليلا لكن اسلوب الكاتب المميز اطل بسرعة ليمسكني كقارئة جديدة ....

الرواية ببساطة تتحدث عن شخصية "رغم أننا رافقناها طوال 150 صفحة الا اننا لا نكاد نعرفها ... تبدأ الرواية في زنزانة لا يعرف ساكنها لماذا وضع فيها ولا يصله من العالم الخارجي الا ما تحمله له يدي سجانه ...الذي لا ينطق الا ببضع كلمات "الأواني الفارغة يا ابن الفاعلة" ...لكن خلال هذا الالم الطويل يتذكر بطل الرواية مواقف واحداث قد تكون غير مترابطة ظاهرياً لكنها شديدة الاحكام لتقدم لنا عملا جيدا ويستحق القراءة...الرواية مؤلمة سوداوية او "بوهيمية" تصف بشاعات الحرب سواء تلك التي حدثت في لبنان او على الجبهة بين العراق وايران ...الى بعض المشاهد التي تتحدث عن والديه وعن رجل وامرأة لا نعرف علاقتهما به ...عبر ذاكرة تبدوا كما لو كانت ضوء معلق يتحرك في كل الاتجاهات فيكشف المكان هنا وهناك بعشوائية مباغته... حتى نصل الى نهاية الرواية والتي وضعتها كأحد الاحتمالات التي تنسجم مع ماوصلني من الرواية....

ليس غريبا ان يختار الكاتب بضعه اسماء لشخصيات عاشرها البطل لما لها من دلالات هامة في النص اولى تلك الاسماء "مريم" تلك الفدائية العنيدة والتي تحولت في جزء اخر من ذاكرته الى شخصية مختلفة تماما تضج انوثة لتأخذه من لا مبالاته وضياعة الى ضياع اكبر حين تقوم بقتل احد القادة ويتم اغتيالها ....وهنا رجحت ان هذا سبب الزنزانة...لعلهم اعتقدوا انه شريكها بالجريمة... ولكن بعد مضي بعض الوقت لم يعد هذا مهما "مريم" اسم له دلالته العميقة واعتقد ان اختياره كما اختيار باقي الاسماء ناجح جدا في تقديم عمل محكم...

... ثم الاسم الاخر "أنس" وهو ما اطلقة البطل على وجه من الحصى قام بصنعه في زنزانته فالاسم  مأخوذ من "الانس" وهو الذي آنس وحشته في الزنزانة المعتمة والرطبة التي تعج بالرطوبة والصراصير والوحشة لكن هذا الوجه يتحول الى حصى يرمي بها الدلو الحديدي الذي يتبول به بعد ان يعثر صدفة على زر كهرباء ينير الزنزانة المعتمة والتي يستغرب ان السجان لم يشر اليه.... الى الاسم "خلف" وهو الجندي العراقي على الجبهة في الحرب الايرانية الذي اكتشف اصابته بحصى الكلى وساعده للنجاه وهو الذي شهد الظلم وهرب الى كندا ليتزوج مجندة فقدت ذراعيها وساقيها في الحرب ليعيش معها على اموال المساعدة من امريكا.. وليرسل معونات لاسرته بالعراق...ثم "مصطفى" القبطي المصري الذي حضر ليعمل ووجد نفسه في الجبهة تنفجر رأسه امام خلف ورفيقه...

الرواية قراءة لهذا الحاضر الذي نعيشه وعشناه عبر الحروب الفلسطينية الاسرائيلية والعراقية الايرانية ...عبر الاحداث العالمية وعبر الازمات النفسية التي تمر بها الاسرة العربية ...ليس مهما ان تحدد ارض المعركة فكلها حروب تفجر الرؤوس وتغتال الارواح و تنثر الدمار والالم ... وكأن الكاتب مر على ما حدث على مدار ثلاثين او اربعين سنة مرت في رواية من الحجم المتوسط ليضع امامنا صورة قاتمة لما مر بنا وما سوف يمر ..... الرواية رغم انها فصلت مشاهد كثيرة وكلها تقريبا يعمها الدمار والموت لكنها في ذات الوقت تتحدث عن الازمة الداخلية بين بطل الرواية وذاكرته او حياته التي تطل عليه من بعيد....

قلت قبل قليل انني حدست بنهاية الرواية والحقيقة ان هذا حدث لانني كنت دائما افكر بأن أي إزمة يعاني منها الانسان  تتركه في قاع بئر لا يستطيع النجاة منه الا بتصفية الذهن واكتشاف ما حوله والبدء في البحث عن مخرج... واننا في هذا العصر كلنا داخل بئر عميقة نحتاج الى الخروج منها عبر البحث عن ممر يفضي بنا الى الخارج...

ربما ان ما شهده هذا الجيل والذي ينتمي اليه الكاتب لم يشهده جيل اخر... ولن يشهده لكن الكاتب بدر احمد بذكاء استطاع ان يحصر ذلك كله عبر رواية رغم بساطة احداثها ظاهريا الا انها عميقة وتقرأ على عدة مستويات ... وهنا اعود للعنوان لاتساءل عن البابين الى اي الاتجاهات يفضي كل منهما بل ... لماذا اختار هذا العنوان وهل هناك نجاة أم ان الخارج كما الداخل سيبتلع ملامح اجسادنا !

الخميس، 25 أكتوبر 2018


قراءة في قصة حسام_الثني ((عفريت))

"النص"جليانة بنت عشرين.. تقبض بكفها ع الريح وتخلق المعنى.. في حقيبة يدها تخبي حبيبها.. تزمّ المواقف الجادة بشفايفها وتمشي لقرايتها.. في الجامعة، حبيبها هادي في الشنطة ما يشاكس لا يدير دوشه.. هكي وعَدْهَا "شيليني معاك ما ندير شي. كي تستحقي ويبدا الأمر لابد امسحي بكفك جنب الحقيبة. نخرجلك مارد عنيف".. المارد يدافع عنها.. المارد يقرّيها.. عفريت يعرف إجابات الـمُمْتَحِن قبل السؤال.. كان جليانة نسيَت كراسها ف الحوش أو تبي شيت م التصوير هو يجيبه قبل يرتد طرف العين. (جليانة تكحّل هدبها بليل طويل طول شعرها).. وكان جاعت وقت الفطور ينزّل عليها مايدة من الغيم.. كان عطشت يسقيها ندى من خدود الورد. ويمسح بلاط الكون باللي يهينها.ف الليل تفرد شعرها على صدر العفريت.. يحكيلها: أنا زمان كنت مارد مُطيع لسيدنا سليمان.. وفي لحظة ضعف عصيته. حبسني في الحقيبة آلاف السنين. مات عليه السلام قبل يسامحني. كفرت بيه ورب كل الكون.. ونويت نشّيطَن نهزّ عرش المجتمع.. لكن ما قدرت نكون إلا حنون.. الحبس كَسّر ضلوعي. أنتِ بنت يا جليانة وتعرفي معنى السجون. أنتِ بنت يا جليانة وتعرفي معنى قيود الآخرين.. قاتل إحساس إنك تكوني رهن آوامر آخرين.. تفقدي احساسك بوجهك لما ينتزعوه منك.. ويقولولك إنت أصلا مش ملك نفسك.. لما تشتهي ملح البحر، وما تشميه.. لما تحتاجي فنجان قهوة مع صديق، ويجرّموك. أو تفردي شعرك جناح الريح تحت النور ويحجبو عنك الغروب!.... أنعم يا جليانة أنا كفرت بسليمان النبي زي ما كفرتي بالذكور. وقررت نؤمن بس باللي يحرر ضلوعي من الحقيبة.جليانة تحس رعشة خوف.. ما تحب شي يهزّ أركانها.. ما تبي كفر "استغفر الله العظيم" تبي سلام.. حتى إنكان على حساب ضلوعها.. والجن كافر كافر وملعون.. بس كان حنون يحبها. وهي زاد تحبه.. وتمرر أناملها على أنفه الجميل. ويقول: "في عينِك لمعة غريبة.. مَسحة وداع.؟. صح؟ الجن ما يعلم الغيب يا جليانة لكن يعرف نظرات الوداع.. يعرف آلام الرحيل قبل الرحيل.. نبيك يا جليانة.. لكن لو قررتي نغادر تلقيني عبدك مطيع..". قالت جليانة "امشي.. معَش نبيك" وكان قصدها "نحبّك".. قالت "تي عَدّي.. عتقتك للأبد".. "أمرِك مُطاع" قال دون نقاش.. صفَّق كفيه وتبخّر ف العَدَم.. وفي لحظة غامرة بالحزن حست جليانة بفراغ كئييييب.. ضمّت مخدّتها بألم.. غرزت أظافرها وبكت بَكية طلوع الروح.....

****
النص الجميل يأسرك بنعومة ويتحتفظ بك حتى النهاية والنص الجيد هو الذي يحتفظ بك حتى بعد أن تنتهي من قراءته ..
وكان هذا النص دعوة جميلة من حسام الثني لقراءة نص تتغلغل به العامية كما العفريت بنعومة وخفة لا تزعجك ولا تبعدك عن النص بل انها أتت بذكاء او هي طريقة خاصة بالكاتب لتجعل للنص بُعداً اضافيا... ف (جليانة) الصبية الحسناء "بنت العشرين ...تقبض بكفها ع الريح وتخلق المعنى" وكأنها جنية رغم هذا "أنتِ بنت يا جليانه وتعرفي معنى السجون... أنتِ بنت يا جليانة وتعرفي معنى قيود الآخرين" النص أتى بخفة شديدة ليقوم ب".. ونويت نشّيطَن نهزّ عرش المجتمع" فالنص رغم براءته الظاهرة إلا أنه بحدة غرس سكينا حاداُ في وجه المجتمع الذي يقيد الحريات، حرية المرأة على وجه الخصوص ولم يترك النص من هذه القيود الا وأتى به "قاتل إحساس إنك رهن آوامر آخرين" فبدأ بحرية الاختيار، ثم "تفقدي احساسك بوجهك لما ينتزعوه منك" ثم بالنقاب الذي يحول وجه المرأة الى عورة "لما تشتهي ملح البحر، ومات تشميه" وهنا اتذكر دعوة حكاية ساذجة لكاتب اراد كتابة نص روائي "اسلامي" فجعل بطلة العمل تذهب الى البحر وتسبح به ... بحر لا ادري ان كان على الارض ام في كوكب "ملكية خاصة" ثم "لما تحتاجي فنجان قهوة مع صديق..ويجرّموك" وهنا لم يأت النقد فقط لمسألة الاختلاط التي يحرمها المجتمع ولكن ايضا للافكار المنحرفة التي تجعل من كل رجل يجلس مع امرأة او يتحدث اليها هو حبيبها او بينهما علاقة محرمة.."او تفردي شعرك جناح الريح" وهذا نقد اخر للحجاب الذي تغطي به المرأة شعرها... والذي كان له وقع اعمق على "جليانة" من الانتقادات الاخرى فهي "ما تحب شيء يهز أركانها ما تبي كفر استغفر الله العظيم تبي سلام" والحقيقة هنا ابتسمت فهل كانت دعوة الكاتب لهذه القصة بالذات لاحتوائها على العامية التي لم افهم منها كلمة في نص سابق له ام هي تحدي لقراءة النص الذي ينتقد حقوق المرأة وحريتها و "حجابها" الذي ارتديه ؟
"تبي سلام حتى إنكان على حساب ضلوعها" الحقيقة أن النص ماكر وجميل بنقده اللاذع للمجتمع ولكل ما يفرض على المرأة وحتى لا يسيء البعض الفهم فالنقد له وجهان فهو ضد القيود والنقاب والحجاب وعدم الاختلاط ولكنه ايضا مع رغبة المرأة الاصيلة بالحرية والتحرر من كل القيود، فليس اروع من أن تترك امرأة شعرها للريح ولا اجمل من ان تترك جسدك عاريا تماما بين كفي الماء المالح، لكن هنا وبعيدا عن "الغضب" الخفي الذي يغلف النص و"النقد الشرس" الذي اخفته ببراعة لغة جميلة وعامية ناعمة ...بعيدا عن كل هذا اود الاشارة إلى امرين في غاية الاهمية وهما أن المرأة وحدها تقرر ان كانت تخضغ لهذه القيود "وهي كارهة" او تخضع لها لان "هذه الحياة لم تأت لتحقيق الرغبات" وحتى لا ندخل في متاهات يميل لها البعض فالنص خاص وليس عام بدليل النهاية الحزينة، التي فرقت الاحبة، وفصلت جليانة الجميلة عن حبيبها العفريت الذي لا "يعلم الغيب" لكنه يعرف "نظرة الوداع" النهاية محزنة وهي لا تختلف عن كثير من الحكايات المشابهة التي يفترق بها العشاق لاختلاف وجه نظر كل منهما في مسألة أنا اعتبرها شخصية ولا يجوز أن يفرضها أحدهما على الآخر... فالقناعات مرتبطة بشكل أساسي بالشخص بحريته ومصيره بعلاقته بربه وبنهايته ...

النص رائع وله ابعاد عميقة واكبر بكثير مما قدمه لنا الكاتب وهذا بالضبط النص الذي يعجبني بصرف النظر ان اتفقت او اختلفت مع افكاره فهو نص جميل وعميق وذكي جداً باستخدامه العامية والقصة الدينية لتقديم قصة تكررت في كثير من الكتابات ونهاية لا تبتعد كثيرا عن قصص العشاق التي تنتهي بالفراق... لكنه فراق "طلوع الروح" ...

الجمعة، 18 ديسمبر 2009

جبير المليحان في (رثاء)ئه الكبير


رغم أن القاص الأستاذ جبير المليحان آثر أن يسمي قصصه (قصص صغيرة)
إلا أن ما قرأته في تلك القصص يشكل في مجموعة ما يشبه سيرة حياة !

كتبت تلك القصص على مدار سنوات (1997 – 2008) تروي في معظمها سيرة حياة بطل واحد
(عبد الله) فإن كف عن الظهور بداية من (رثاء 11 ) إلا أنني لم أجده قد غاب تماما عن
الحدث سوى بتغيير زاوية الظهور فقط !

تبدأ القصص (رثاء) ب عبد الله يعضّ على صورته وينخرط في بكاء مرير
وتنتهي بالباب الكبير يخر صريعا…
ما بين الصورتين ينقل لنا القاص الكثير مما في روحه وفي وعيه عن (عبد الله)
الرجل الذي نستطيع وعلى امتداد القصص أن نعرفه عن قرب …

رغم أن النصوص نشرت بغير ترتيب إلا أنني سأمر عليها كما رقمها القاص
نفسه بداية من (رثاء)

عـضّ عبد الله الصورة ( وجههُ و هو صغير ) ، حتى تـقـطّـعت :
( راعه ، و هو يحدق فيها ، و ينظر في المرآة : الشكل و الألوان و التجاعيد و الوهن و الأيام و الهموم و الديون و الخيبات و الأصدقاء و الزوجة والأولاد والمنزل والعمل و عينيه وقدراته و ذاكرته و ) ارتعب و ابنه الصغير يضحك قائلاً :
- لماذا تأكل الصورة يا أبى .. إنها قديمة ؟!
عبد الله ينخرط ، بنشيج ، باكياً ، طفله الممزق !


تبدأ رثاء بصورة بانورامية عامة للشخصية الرئيسية في (الرثاء) وهي صورة تختصر الحياة بأكملها عبر (التجاعيد والوهن والايام والهموم والديون والخيبات ... إلخ) وكأنه بهذا يقدم لنا بشكل مكثف وحاد عبد الله الشخصية التي سترافقه في عدد كبير من القصص قبل أن تتخذ لوجودها زاوية أخرى هي زاوية المتفرج، وحتى هذه الزاوية التي سنجدها لاحقا في القصص الاخيرة إلا انه قدمها لنا هنا عبر وصفه لعبد الله بهذه الكلمات ( عينيه وقدراته وذاكرته... ) عبد الله كاسم له دلالات كثيرة فهو إنسان قبل كل شيء بكلمة (عبد) وإنسان حر حين اضفنا للعبودية (الله) وبهذا تنتفي العبودية لما عدا الخالق ... مما يؤكد على الحرية المطلقة إلا مما يقدره الخالق من اقدار كالتجاعيد والزمن ...
(عبد الله) ايضا كلمة عامة وشاملة فهي تنطبق على كل إنسان يدين بوجوده للخالق فكما نقول دائما (كلنا عبيد لله)، صورة عبد الله أيضا لا تخلوا من انعكاس لصورة القاص نفسه.... فهل كانت تلك القصص سيرة ذاتية لكنها رسمت بفرشاة القاص بقصد لينفصل بها عن ذاته المؤرقة وما تورثه من هموم ؟؟؟

والمبراة تنهش الجسد الخشبي للقلم ، فاحت في أنف عبد الله الرائحة : ( غرفة الصف الطينية، الثوب البني الذي يلبسه المدرس دائماً، عصاه ، المقعد الخشبي المزدوج ، و زميله في الدرج دائماً ، ضحكاتهم ، قفزهُ سريعاً ..راكضاً ..سابقاً الكل : كســـهم ، عندما يصفر المراقب للخروج …………… ، ) ، قرّب القلم من أنفه ، شم رائحتهُ القديمة ، و ذهب إلى هناك ، راكضاً إلى الخلف ، على وجهه ارتسمت ابتسامة كغيمة عابرة ، هزّ رأسه و هو يبوح في سـره : ( لم تكن لنا أحزان كثيرة ) ، غيمته العابرة سقطت على القلم ، بالقـرب من أنفه ، كأنها دمعة !
عبد الله . (رثاء 2)

في رثاء 2 وقع القاص باسمه/اسم بطل كتابته ... عبد الله.. وخط لنا حياة البطل عبر أمرين في غاية الأهمية (القلم) و (لم تكن لنا أحزان كثيرة) بدأت هذه القصة أو لنقل هذا الفصل في حياة عبد الله بحرف (و) وهذا دليل آخر أن هذه القصص هي ومضات لفصول مكثفة ومختصرة لسيرة ذاتية كبيرة... القلم ... ترى ما هو نصيب القلم في حياة (المليحان) وفي حياة شخصية (عبد الله) هذا القصة قدمت لنا طفولة عبد الله وما سوف يؤول إليه حاله لاحقا.. القلم والأحزان...!

وهم يسلمونه ، جائزته ، الساعة الذهبية ، و عيناه تمتلئان ببحيرتين ، و التصفيق يعلو له ، كانوا ينظرون إلى الناجح الماثل أمامهم ، أما عبد الله فلم يسمع ما قاله خطيب الحفل : ( كان في السوق القديم ، عند البائع يخرج العشرين ريالاً ، ويعلو فرحهُ و هو يأخذ الساعة النحاسية ، ذات السوار الحديد ، والأرقام والعقارب المضيئة ، و يلصقها بأذنه ، (فتتك ).. تتك ، ………) ، انتبه إلى ضحكات المحتفين به ، و هو يضع الساعة الذهبية ، قرب أذنه ، لم تكن تتك ، و هو يبتسم كغريق ! (رثاء 3)

فصل آخر من حياة عبد الله ... به تعدد وحزن ....عبد الله الذي يتسلم جائزته في مكان يتواجد في مكان آخر... كما الروح المنفصلة عما يورثها الحزن .. أو هي ارتباط لا إرادي ما بين عبد الله وما حوله... هذا الانفصال أي التواجد في مكانين (الحفل) و(السوق) يعبر عن صفة أساسية في شخصية عبد الله وهي ارتباطه بالحقيقي والأصيل.. وفي ذات الوقت ابتعاده عن الزيف والقشور ... ونستطيع أن نستبدل أي صفة من هذه الصفات بأخرى أكثر تنوعا لكننا سنبقى في كل الأحوال ندور في فضاء هذا التناقض والانفصال ...


قال عبد الله : يا الله !
و انكفأ راجعاً ، بعد أن قاد سيارته ، ومشى فيها ساعتين ، حتى و صل إلى الوداي الكبير ، و القرية الغافية ( كما سماها دائماً ) ، و وجد أطلالاً ، و بيوتاً تهدّمت .
الآن و هو يشارف المدينة ، عائداً ، أوقف سيارته ، متردداً فيما يفعل بالوادي الكبير ، و البيوت المهدمة التي يمتلئ بها صدره ! (رثاء 4)

هنا يقول جبير المليحان الكثير عن عبد الله .. رغم أن عبد الله نفسه لم يقل سوى (يا الله !) كأنها صرخة المهموم وليس المتعجب ... الخيبة تظهر من الكلمة أكثر مما تظهر منها الدهشة ... العودة تستدعي بالضرورة الاغتراب والبعد... أما (الوادي الكبير) و (القرية الغافية) فهما المكان في صورته الاعمق في حياة عبد الله... او حياة الكاتب أو حياة كل انسان يحن إلى مكانه الاول ووجوده الجميل... ارتباط القاص بالمكان يتضح لنا ليس عبر اعماله فقط ولكن عبر تلك الصورة التي يضعها كتوقيع له... هنا أنا لا اصر على ربط القاص بشخصيته ولكني اقرأ القاص من خلال شخصية قصصه .... أو اقرأ الشخصية من خلال كاتبها ...
في هذا المشهد المكثف أو بالاصح الفصل المكثف من حياة الشخصية نستطيع ان نطلع على الكثير الكثير أو على الاقل أن نشعر بالكثير عبر انتقال المشهد إلينا نحن ... وذلك بتحسسنا لتلك البيوت المهدمة والوادي الكبير وكأنهما مشهدين يطلان علينا من انفسنا ... وكأن الريح تباغتنا وهذه صفة لاحظتها في عدد من قصص جبير المليحان تلك الصفة التي تجعلك تقترب من روح القاص وروح شخصياته بتأني جميل...

كلما طعنه برق ، أو هطل في قلبه مطر ، تذكر ليلة أن كان مزهوّاً بلبس بشته ، مرافقاً لفرح صديقه الشاب و هو يتزوج ، حين داهمته ضحكة بيضاء كوجه صبوح ، وضاعت في دمه … لم يجدها عبد الله أبداً ، لم يجدها ، كلما رأى (رثاء 5)…

هذا الفصل يتناول قلب عبد الله ...عبر تلك الضحكة التي ضاعت في دمه ... عبد الله الذي رافق صديقه لعرسه يلتقي ب(ضحكة بيضاء) ولكنها كالومضة التي تختفي ... وهنا أود أن أضيف بأن الحب نقطة المركز في حياتنا كما القلب نقطة المركز في أجسادنا.. لكن ضياع تلك الضحكة يكشف لنا مساحة كبيرة من حياة عبد الله... كما تكشف كلمة (كلما رأى) الكثير مما أخفاه القاص مما كان من الممكن أن نقرأه عبر رواية كبيرة ... .

عشرون سنة : و عبد الله لم يرَ هذه السماء ، والهواء الطّـري ، و كيف اتسعت هذه الشوارع، وطالت هذه البنايات ، وكثر هؤلاء الناس ، و تلوّث هذا الجو ، و كيف كبر ابنه ، و تغضن بريق عيني زوجته .. عشرون … و هو لم يسمع هذه الضوضاء : الأليفة - المزعجة - الغريبة …
عشرون : فرت منه و هو في سجنه ، لم يدر أن مزارع أحلامه الشاسعة في حقول قلبه ، ليست غير ما يراه الآن : الشارع غير العابئٍ بأحد ، أو به ، و الناس ، والعالم ، و هو ماضٍ ينحدر إلى قاع سنواته ! (رثاء 6)


غربة عبد الله أو سجنه ... والعشرون سنة ... لم يأت رثاء 6 فقط ليقدم لنا التناقض الذي يحدث عندما نغيب عن المكان لنكتشفه وقد تخلى عن وجهه القديم وارتدى وجها مغايرا لما تركناه عليه ... ولما نحن إليه... وإنما أتى هذا الرثاء ليقدم لنا بشكل مكثف ما يربط عبد الله بالزمان والمكان معا... الزمان الذي بدأت به الجملة (عشرون عاما) وانتهت به (قاع سنواته) والسنوات زمان لكنه زمان أساسي مرتبط بشخصية عبد الله ما كانت وما أصبحت عليه... \
(!)
على ورقة كضمير طفل ، رسم عبد الله مربعات كثيرة ، ملأ بها جدولاً كبيراً ، عـبّـأه بأيامه . أخذ علبة الألوان ، ولون الجدول و نظر فيه :
- الأيام البيضاء في البداية ، وكثير من البقع فيها .
- أيام خضر .. وردية ..
- يوم مدرسي مملؤ بالدمع والدم ، و وجه مدير أو مدرس وعصا ...
- أيام الشباب : الأيام الملتهبة .. الأحلام ……………
- مربعات كثيرة : باهتة ، لالون .. بها غبرة رمادية : ( من حارات كثيرة سمع أصوات جوع ، وعذاب ، والكثير من آمال لم تنمو فصارت خيبات : كانت الخيبات مجتمعة في حفل سمر لها ، وكان كثيرون وعبد الله مائدة لها ....! ) .
(!!)
التقط المسّـاحة و مسح بعض خطوط أيامه ، وألوانها : عدل فيها، …،…،…،…، تعب … مزق الورقة …
(!!!)
وضع الجدول السابق في ورقة أخرى بهدوء ، لونه ، ثم رسم الأشخاص الذين لونـوا مربعاته : منذ المربع الأول ، وحتى يومه هذا .
(!!!!)
استبعد أمه وأباه ، والكثير من كبار السن والأطفال ، ثم وضع الناس في مربعاتهم ، و صفّ أسلحته أمامهم : أقلام ،، أوراق ،، خطابات ،، شكر ،، عرفان ،، عــمل ،، محبة ،، حب ،، ألفة ،، فقد ،، أماني ،، وفاء .. عصا ،، مسدس ،، مشنقة ،، ساعة ،،………
(!!!!)
بدأ عبد الله المعركة !


هنا في رثاء 7 شعرت بأن القاص يضع لنا روايته كاملة ... بكل فصولها ... وكنت اقرأ بانتباه... هل كانت معركة يبدأها عبد الله أم ينهيها ...؟ عبد الله أمام حياته كلها ... قد تكون سلسلة رثاء مجموعة ضمن مجموعات كثيرة من القصص لكنها حتما مجموعة غير عادية .... ولا ادري إن كان القاص نفسه أدرك ذلك ؟؟ أم أنه كان يكتشف مثل قارئه أن الرثاء هو ما يكتبه الزمن تدريجيا فينا كبشر... ك (عبد الله) ذلك الاسم العام ؟؟
في هذا الرثاء حتما سنجد كل ما قبله وما بعده ... وكأنه خلاصة الرواية !

صفحة ٌ بالجريدةِ : وعبد الله يقرأ أخبار القوم .. و قلبه يـيـبـس كل يوم ،
صفحةٌ تاليـــة : رسمٌ كبيرٌ لكرة ، و منازل القوم تتناثر على التل ، والسهل ،
صفحة ثالثـــة : تمتلئ بدماء و جثث ،
رابـــعـــة : منزل عبد الله ، وجهه ، و أطفاله ، جيرانه : يمشون في صفحة المقبرة ،
صفعة خامسـة : وصفحات الجرائد لا تنتهي ! (رثاء 8)


رثاء 8 أتت أيضا بانوراما بطريقة ما لكنها هنا تنقل لنا العالم من خلال عبد الله بعكس سابقتها التي أتت لتنقل لنا عبد الله كاملا ... في قراءتي الاولى لهذه القصة لم انتبه لما قام به الكاتب حين غير كلمة (صفحة) إلى (صفعة) ولكن بعد أن اقتربت من عبد الله ومن مشاعره التي نقلها القاص عبر هذه الكلمة وعبر جملة (قلبه ييبس كل يوم) كانت الكلمة (صفعة خامسة) بمثابة الجرس الخفي في ثنايا النص...

القسم الثاني ....

متى تنادينا النصوص ؟؟ لست أدري لكني بت أعرف أن القراءة لا تأتي بقرار مني ولكن من النص ذاته ويستدرجني كما يريد... دخلت نصوص الأستاذ جبير التي نشرت أخيرا واعجبني منها أكثر ما يكون الباب واليد فقررت أن اكتب شيئا بهذا العنوان (يد و.. باب) أو شيئا مشابها .. الباب الذي سقط لفت نظري إلى شيء يدخل من خلاله ... فقررت أن أعود للوراء للبحث عن جدران لهذا الباب فوجدت نفسي اتابع الرثاءات حتى اسرتني تماما ....

منذ زمنٍ سحيق :
و أنا أراه من نافذة مكتبي : أراه كل يوم جالسًا على الرصيف ، و في يده مسبحة الزمن ، و النخلة تظـلـله ، ودوامات الضجيـــج : ( الشارع المباح .. الناس المتقاطعين .. السيارات الجهمة .. القطط الطويلة .. الأشجار الباكية .. ضوء الشمس الساخط .. السماء … ) من حوله تدور ، و هو لم يأبه ... ، وعندما يؤذن الظهر يقوم ، و يمشي ، منحدر الظهر، إلى المسجد .
أمس :
مشى عبد الله ، وحـبات المسبحة تتساقط من خلفه!
و قبيل أذان ظهر اليوم :
أمسكت مسبحتي ، و توجهت إلى الرصيف ، وجلست تحت ظل النخلة ، وسط الدوامات !


في رثاء 10 يقدم لنا جبير المليحان الزمن عبر تنويعات عدة (منذ زمن سحيق/ أمس/ قبيل آذان ظهر اليوم) يجمع الماضي البعيد والقريب ... والماضي شبه الحاضر ... يقدم لنا فقط ما حدث وليس ما سوف يحدث وكأنه بهذا ينظر من باب إلى أبعاد كثيرة .... لكنها كلها تبقى داخل إطار واحد.... الصورة التي رسمها للاخر ... (في يده مسبحة الزمن/النخلة تظلله / الدوامات) هي ذات الصورة التي وضع نفسه في إطارها في النهاية وكأنه بهذا يشاهد تكرار الايام وتراكمها .. في هذا المشهد يقدم لنا عبد الله المتفرج دائما على ما حوله ... وعندما ينتهي الزمن ويذهب عبد الله يترك مكانه لشخص آخر يقتفي أثره ويؤكد على مسيرته ... هل هذا نوع من الاحتجاج الصامت على ما يورث الإنسان الجمود والسلبية ؟؟؟ هل تقديم الصورة بعمقها وحزنها يؤكد على رفضه لها ؟؟؟ نعم بدليل كلمة واحدة (الدوامات) وهي كلمة تحمل الصوت في داخلها والضجيج وهذا في حقيقته اشارة لانزعاج ورغبة خفية بالاحتجاج سواء من فعل عبد الله او من فعل الذي تقمصه وجلس في مكانه ...!

ظل صامتا ، وهي تضع في الحقيبة ما تبقى لها من حياة . التقت عيناهما ، و قالتا كل السنين ، و هي تغلق الباب . تَـلَفّتَ في جسد الصالة الخاوي ، و أعناق الزوايا المتهدلة ، و أكوام الذكريات اليابسة ، و تشعب ألم البكاء في قلبه .....

رثاء 11 ... يطرح علينا فصلا كبيرا من الحزن ... هو الفراق لكن لماذا ؟؟ الأسئلة التي توقظها الكلمات هي الأسئلة التي ستقدم لنا التفاصيل... وتأخذنا نحو الكثير من التبريرات والحكايا.... وهو رثاء يقدم لنا عبد الله ذا القلب الشفاف الذي لم يخذل أحدا في كل الرثاء سوى نفسه.... صمته .. الذي تحول إلى ألم .... يحمل الفاجعة التي أورثه إياها القلب ... القلب الذي لازال يعاني من الفقد... (جسد الصالة الخاوي...الزوايا..الذكريات) ترى أي حزن ذاك الذي يعانيه القلب المخذول ؟؟؟؟ لماذا اختفى عبد الله هنا ليظهر في الصورة بوضوح ولكن دون اسم ؟؟؟


ثمة غناء تأتي به الأشجار ..
فيهفهف فؤاد المرأة .. و يورق بهاء بسمتها الوضيئة في فضاء البيت الواسع ..
ثم تغني للنخيل الظليلة الراقصة ..
و تشعل بعينيها أشجار الليل .
* * *
ثمة صوت يتقدم .. يهمس بوجد الأعشاب ..
المرأة تسمع صليل خطوات صقيلة ، قريبة .
توقظ أحلامها النائمة .. و يهطل مطر الفؤاد بأغان جمة:
• الله ـ أيها الزمن ـ هل جئت ؟!
تمد أشرعة يدها كسهول خصيبة .. فيغرس الرجل في كفها نجمة ..
تتسع المرأة بالحلم كزهرة ماج بها ماء ..
فيبذر الرجل في سهولها نجمة أخرى ..
تتلقف النجمة البيضاء بكفها الماطر ، و تعلو بها ، فتخضر أشجان الليل .
و في سهول الأصابع يدس نجمتهـ ـا الثالثة ، فتهتف بيارق بعيدة بضوء و ألحان مترعة بأحلام .
* * *
النجوم الثلاث تلمع في ضوء اليد الخضيبة .. و المرأة تمد حلمها لتحيل شجر الليل المتوراي إلى لون يشع بالأشجان .
* * *
يأتي الزمن على دفعات ؛ و هي تغذي الحقول .. و تباهي أيامها بنمو الألوان ، و اتساع الأشجار ..
* * *
....... يتقدم زمن ، و يلف الغبار أغصان فرحها :
كان ذلك في ليلة صحو باردة :
إذ غادرت مرزعة الكف نجمة .......، المرأة تقول :
• يا الله ـ أيتها الأيام !!
* * *
و في وقت آخر ، و في ليلة صحو أخرى ، طارت نجمة ........، فتصيح المرأة :
• يا الله ـ هذه الأيام !!
* * *
...... و في ليلة.........انطفأت نجمة ........، والمرأة تولول :
• يا الله !!
* * *
المرأة تفتح كفها ـ الآن ـ وتدير ثلاث حصيات بيضاء كامدة ...كعينيها .
* * *
كان ثمة أشجار كامدة تتوارى خلفها طيور أيام هاربة ......... و نواح طويل يتقدم ؛ تسوقه الريح .


في رثاء 12 بدأت تظهر الشخصية الأخرى ... المرأة وبدأ يغيب عبد الله أكثر ولكن بتدريج وكأنه إعداد لفقده ...النجوم والفرح والخصب والنماء كل تلك البداية السعيدة يعقبها حزن .. الزمان يمر يجئ بعبد الله ويذهب به... لكن عبد الله نفسه لا يظهر بوضوح إلا عبر روح المرأة ... في ذكاء شديد يلتقط جبير المليحان الكلمات والحدث ويغزلها في رومانسية رائعة .... الكلمة عند المليحان لها أبعاد كبيرة نستطيع أن نسمعها عبر الكلمات ونشعر بما تشعر به الشخصية المتحدثة ... الكلمة تخرج منتقاة تماما في رثاء 12 يقدم لنا المليحان قصة شعرية جميلة ... تلخص العلاقة بين المرأة والرجل ...ورغم أنه قدمها هنا من خلال المرأة إلا أنه لم يغفل صورة الرجل ... والرجل الذي يقدمه المليحان في قصصه رجل له مواصفات خاصة ...رجل بمعنى الكلمة ... حتى في غيابة الذي يخلفه نواح طويل ...

امتدت يد الوقت قابضة على الفراشة ، ساحبة الألوان من ارتعاش أجنحتها . الوردة توقفت عن الضحك ، و أخذ أريجها يضمحل و اليد تخنقها.الرجل تباطأ ، ثم جثا متهالكا ، و اليد تتخطاه عاوية في صلابة الصخور . (رثاء 13)

دائما يحضر الوقت والزمن ليؤرق المليحان ويشغله في تعاطيه مع الحياة فيما حوله ..الفراشة والوردة والرجل... وحتى الصخور.... لماذا بدأت هذه القصة الومضه بالفراشة ؟؟؟ هل لان أعمار الفراشات قصير ؟؟ أم لانها تختار موتها وعوضا عن أن تهرب منه تتقدم نحوه كمن يتقدم في الغواية ؟؟؟ اليد ... يد الوقت التي تتقدم بهدوء وتقبض على كل شيء لا تكتفي بالفعل الصامت بل تتجاوزه ل تعوي في صلابة الصخور ... كحيوان جارح...


الكاتب يدخل في صومعته و يغلق الباب :
ـ سأكتب قصيدة بالمناسبة !!
يفتح أدراج ذاكرته ، يفرك أصابع فرحه ، و يخرج كيس الكلمات : تصطفق الكلمات متطايرة في سماء الغرفة باحثة عن ضوء .. يصطادها ، واحدة واحدة ، و يصفها على الورقة القاحلة كجثث العصافير .. يغلق الكيس و يضعه في الدرج .. يدخل بهو الصالة المرمرية اللامعة .. و من فوق المنصة يقذف بعصافيره، فتتساقط الجثث في آذان المصفقين الملولين ..فيما تطير كلمات أخرى في فضاءات الشوارع الطينية و البيوت المنخفضة .. منطلقة من أفئدة الناس باحثة عن أنهار تجمع أمطارها .


لا يغفل القارئ ذلك الترابط الكبير بين أجزاء الرثاء... بل أنه يدرك مدى ارتباط الكاتب بشخصياته وبصدقه مع ذاته عبر كتابته... هذا الرثاء الذي يحمل الرقم 14 يشبه الرثاء الذي يحمل الرقم 2 ... القلم والكلمات والكتابة ... هنا يقدم المليحان رؤيته عن الكتابة وغاياتها ..... الكتابة الحقيقية في نظره هي تلك الكتابة التي تطير بغير فضاء يحدها تنطلق من أفئدة الناس وتحمل في منطقها المطر .. هي كتابة حقيقية وقريبة من النبض. .. هنا أود أن أتوقف قليلا للنظر في قلم جبير المليحان ؟؟ قلمه الذي يرفض (سأكتب قصيدة بالمناسبة) أي يرفض الالتزام نحو شيء سوى التزامه ناحية الطبيعة والأرض والناس ... يرفض الكلمات الميتة كجثث العصافير ... ويبحث عنها حية وتحمل الماء في طياتها كما المطر.... قريبة من نبض الناس وفضائهم الواسع...
هي رؤية كل كاتب ملتزم ...لكنه هنا يضيف إلى الالتزام صفة دقيقة جدا لقلمه وهو (انهار تجمع أمطارها) يضيف لقلمه الخصوبة والأمل والنماء عبر المطر .... وهذا ما نستطيع أن نؤكد عليه بكتابات المليحان التي تتوجه إلى الطفل على وجه الخصوص وإلى الإنسان بشكل عام..


الشيخ الذي يحمل في رأسه طريق الأيام ، وفي وجهه ترتسم قامات النخيل ، واتساع السهول ، ومصابّ المياه في الجبال ، و تتدفأ في قلبه حكايات الليالي الطويلة ؛ حيث يجتمع الناس هناك مثل الطوابير الطويلة من الفقراء . يعود من نخيله وقد غرست يداه البذور.. وتلمست الأوراق والغصون ، وغنت مع الطيور . يمشي الهوينى ، ملتفتا في كل خطوة إلى الخضرة المدلهمة بالتعب والسنين . ينادي أولاده و هو يتمدد على الأرض ممسكا بخوص طري وغصن نعناع وسنبلة قمح.. يضعها أمامهم فتنهمر دموعهم وهو يغمض عينيه. (رثاء 15)

حزين هذا الرثاء حزين ... ونحن نطالع نهاية الشيخ .. الذي هو في الأصل عبد الله الشاب والرجل .. الأب والزوج ... يحضر هنا (الزمن ) و (الطبيعة) وكأنهما أبطال قصص المليحان بالمطلق...هذه القصة رغم صغرها تروي كامل حياة عبد الله تلك الحياة التي تؤرق المليحان بشكل دائم ...
هنا أيضا يحضر الموت الذي سيطر على كامل القصص باختيار عنوان دائم للمجموعة كاملة (رثاء) لكن الموت هنا ليس نهاية ولكنه اكتمال وامتداد في آن حين جعل الشيخ يترك وصيته (الخوص والنعناع والقمح) يتركها لأبنائه قبل أن يغمض عينيه.... الدموع دليل محبة ودليل أيضا على الوفاء ... فهل هذا الطريق الممتد من بعد ذهاب الشيخ أمنيه أم هي رؤية واطمئنان ؟؟؟

رثاء ـ 16
رثاء *ـ حديقة
رحلت زوجته واستقل أولاده بمساكنهم ؛ و هو يطوي خطاب الشكر على خدماته لأربعين عاما، خرج في العاشرة مساء إلى الحديقة القريبة. كان ضجيج الأطفال يتلاشى وهم يتبعون أمهاتهم المنسحبات إلى البيوت . وجد المراجيح فارغة ، جلس على واحدة . بان الشارع والأصوات وطرف الحديقة بعيدا . انخرط يهزه بكاء الريح . 10/10/2008 الدمام


هناك هاجس دائم لدى المليحان في قصصه يتعلق بالزمن / العمر... وما يرتبط به من رغبات ومن يعترضه من عقبات ... ورغم أن عبد الله بحياته -التي امتدت عبر هذه الكتابة القصيرة/الطويلة- لم يخرج عن كونه إنسانا عاديا حتى في تلك القصة التي تتحدث عن السجن والذي لم يتضح إذا ما كان سجنا حقيقيا أو غربة لم يكن عبد الله أكثر من إنسان مسالم يتأمل بعمق وكأنه جزء من المكان ومن الطبيعة وكأن الزمن يمر عليه كما يمر على حقل أو نخلة... هنا الزوجة ترجل والاولاد يستقلون والعمل ينتهي زمنه... كل هذه الأحداث تتعلق بالآخرين بإرادتهم ولكن ماذا عنه هو ؟؟؟ وجد المراجيح فارغة ... لماذا دائما كان عبد الله سلبيا في فعله رغم ما بداخله من ثورة وألم لماذا دائما اتخذ موقف المتفرج ... وكأنه اقتراب من الحياة وابتعاد عنها في آن ...

رثاء ـ 17
رثاء ـ قفل
ركض من البيت فزعا إلى غرفته، أغلق الباب بالمفتاح،دار في الغرفة الدائرية حتى كلّ . ثم أخذ يطرق الباب طالبا المساعدة !! 10/10/ 2008


يتميز هذا الجزء من الرثائيات وهو من رثاء 16 حتى 21 بالنظرة العميقة المجردة التي تحتفي بالمعنى البعيد والعميق في آن بعيدا عن المباشرة ...تتخذ الشخصية موقفا مغايرا هنا عن مواقفها السابقة ... هل يرجع ذلك لنضج التجربة الحياتية أم لعمق الذات الكاتبة بعد أكثر من عشر سنوات ونضوج التجربة الكتابية ؟؟ بالتأكيد أن القلم يتطور والتجربة تتعمق أكثر ... في هذا الرثاء تدرك الشخصية ... التي ابتعدت عن اسمها منذ بعض الوقت .. تدرك الخيبة التي جالت في حياتها... فتترك (البيت) ويمثل البيت هنا الحياة العادية المتصلة بالأسرة والحياة الاجتماعية و(الفزع) يمثل رد فعل حتى لو كان سلبيا... ركض، أغلق، دار، كلها أفعال وهي أفعال حركة أفعال في الزمن الماضي ... لنصل إلى النهاية المفاجئة هنا (أخذ يطرق الباب طلبا للمساعدة) بالرغم من أنه هو من أغلق الباب ... وهذا دليل ليس فقط على التحرك ولكن على الإدراك وإن كان متأخرا إلا أنه يظل إدراك ... طلب المساعدة بداية للطريق وللاعتراف بالمأزق الذي وجدت الشخصية نفسها فيه و تسعى لتغييره


رثاء ـ18
رثاء ـ إرث
الشيخ الذي يحمل في رأسه الحكايات ، و ترتسم في تجاعيده مسيرة النخل، و تمتد السهول ومصابّ المياه في الجبال بين ساعديه، وتتدفأ في قلبه تواريخ الأيام والليالي الطويلة ، يستيقظ في كل فجر مادا يومه إلى مزرعته ، و في المساء يعود وقد غرست يداه البذور، وفرحت بمياهه الأشجار.. هذا اليوم يعود الهوينا ، يتمدد على فراشه، وينادي أولاده ، ويمسك بأيديهم ، ويشير إلى اخضرار المزرعة المدلهم بالتعب وغناء العصافير . ويغمض عينيه مبتسما .10/10/2008


هذا الرثاء يقابل حرفيا الرثاء رقم 15 وكأنه إعادة كتابة لذات الرثاء ولكن مع تعديل بسيط – لكنه عميق... ففي رثاء 15 يتمدد على الأرض بينما في الرثاء 18 يتمدد على فراشه... يمسك في الرثاء 15 بخوص طري وغصن نعناع وسنبلة قمح بينما هنا يمسك بأيدي أولاده... هناك يضع الأخضر أمامهم بينهما هنا يشير إلى اخضرار المزرعة .. هنا يغمض عينيه مبتسما بينما في الرثاء 15 يغمض عينيه فقط بينما تنهمر دموع أبنائه ...

هنا كم أود أن اعرف من جبير المليحان إذا ما كتب الرثاء 15 و 18 في زمنين متباعدين وبغير وعي من أنهما متماثلين ؟؟؟؟ فالإجابة مهمة جدا في هذا السياق حيث أن الهواجس التي سكنت هذه القصة هي ذات الهواجس مع اختلاف قد يكون هو ما أوجد هذا التقابل (الشيخ الذي يحمل في رأسه طريق الأيام) رثاء 15 وهو بعنوان (ذاكرة)
يشابه (الشيخ الذي يحمل في رأسه الحكايات) رثاء 18 وهو بعنوان (إرث) ما بين الأيام والحكايات وما بين الذاكرة والإرث الكثير ... فهل كان المليحان يعني ذلك ويعيه ؟؟؟؟


رثاء ـ 19 ـ
رثاء ـ امرأة
بعد رحيله ، تجلس المرأة الواهنة ، دامعة العينين . و لساعات تمشي في درب الذكريات الطويل حتى يقرع جرس بابها أو هاتفها ، فتكفكف عينيها و تقوم .
في حفل الأمس فرّ قلبها بدقات متتالية ، وضحكت وهي تجلس وسط جاراتها و بناتها و زوجات أولادها و ضجيج الأحفاد ، حين سمعت صوتا قويا يشبه صوته . لم تتمالك دموعها وابنها البكر يقبل رأسها 10/10/2008


يرصد المليحان الصورة الثانية لرحيل أحد الزوجين.. في رثاء 16 كان رحيل الزوجة واستقلال الأولاد دافعا للزوج ان يعود لطفولته يجلس على الأرجوحة ويصغي للريح بينما هنا يقدم لنا صورة مغايرة .. صورة المرأة التي تفقد الزوج .. ورغم أن النصين كتبا في ذات اليوم ... إلا ان الاختلاف بينهما ليس فقط في الشخصية ما بين الزوج أو الزوجة ولكن في ذلك الحس الذي يتقصى الموقف النفسي والحقيقي في ذات كل منهما نحو الفقد... وبالطبع هنا لن أتحدث عن الموقفين من وجه نظر قاصرة يتبعها عادة بعض الكتاب والتي تتحيز لجنس دون آخر ولكني أكبر في المليحان قدرته المحايدة على تقصي الحالة النفسية وتقديم الواقع دون تحيز .. وكأنه بهذا يقدم لنا صورتين حقيقتين لرجل وامرأة دون أن نقول له لماذا ... لان لماذا هذه تكون عقيمة لان الاختلاف موجود ولا يستطيع إنسان أن ينكره ...

رثاء ـ 20
رثاء ـ يد
حتى بعد أن أنجبت نورة خمسة أولاد ، وعاشت سعيدة في منزلها ؛ إلا أنها كلما رأت يداً ترتفع ، رفعت كفّها أمام وجهها .10/10/2008


هذه القصة تبدو محلقة خارج السرب.. لكن ما بها من جمال في القص وبعد في المعنى تجعلنا نقف عندها ... لم تحضر المرأة باسمها إلا في هذه القصة ... وحضرت بشكل مغاير عما سبق... نورة التي أنجبت وعاشت سعيدة في منزلها لم تنس ... تلك العقدة التي ترسبت في أعماقها نتيجة ظلم وقع عليها في صغرها ... يقترب هنا المليحان من المرأة بحنو واحترام ... يحاول أن يلفت النظر إلى حقيقة فاجعة وهي أن النفس البشرية مهما نضجت تظل أسيرة لماضيها المبكر... الحركة التلقائية التي تقوم بها نورة تعبر عن مأساة ... مأساة يرقبها ويقدمها لنا المليحان بحساسية مفرطة وبتكثيف شديد .... هذه القصة قالت الكثير رغم صغرها .... الكثير الجميل والمعبر ...

رثاء 21
رثاء ـ باب
بعد أن كان البيت الطيني يحتفل كل مساء بغناء الطيور وهي تعود كل مساء إلى أعشاشها وسط بستان النخيل بدأ أنين أخشاب السقوف بعد أن أخذ الرجل زوجته و أولاده إلى البيت الإسمنتي البعيد ؛ تعبت الأخشاب ، ثم أخذت تتساقط في الحجرات ، وذابت الجدران وأخذت تقصر. غير أن الباب الكبير ظل واقفا سنين طويلة ، حتى جاء اليوم الذي تخلت عنه الجدران فاستلقى فاتحا فجواته أمام أعجاز النخيل المتبقية .


هذا الباب الذي حدثتكم عنه والذي كان هو جبل الجليد الذي سحبني إلى كامل الرثاء...الباب الذي بقي صامدا حتى في سقوطه، لا زال يمارس عمله المعتاد فاتحا فجواته أمام أعجاز النخيل المتبقية... الباب هنا يقف رمزا ليس فقط للماضي الجميل ولكنه أيضا لما تحمله الأخلاق القديمة من كرم ... اعتراض المليحان هنا لا لبس فيه فهو يقدم لنا صورة للماضي الجميل مقارنة بالحاضر الإسمنتي الرهيب الذي لم يبقى شيئا من الطبيعة إلا وحوله إلى جمود فلا غناء ولا طيور ولا نخيل ... هذا الباب نستطيع أن نقرأه قراءات مختلفة تبعا لما نضع له من رموز أخرى... فالباب قد يكون مرحلة زمنية تفصل الماضي عن الحاضر ... قد يكون لبنة في العمر الذاهب .. وقد يكون إنسان ... بل قد يكون عبد الله ذاته...
هذا الباب ذكرني بقصة أخرى للمليحان لم يضعها ثمن مجموعة الرثاء لكني اجدها تستحق أن توجد هنا وهي قصة (أمن) فبطلها هو عبد الله ذاته... والباب ذاته... تقول القصة

عبد الله : بعد أن أتمّ تركيب الباب الضخم لبيته ، و وضع النوافذ الضيقة في أماكنها ، و حماها بشبك الحرامي القوي … تنـفـس عميقاً ، ثـمّ شرع ببناء البيت !...... لدمام 8/11/1417هـ 17/3/1997م
الباب الذي قدم الأمن لعبد الله وكان أول ما بني في البيت هو ذاته الباب الذي بقي صامدا حتى النهاية وكأنه بهذا يقدم لعبد الله ولاءه المطلق والتزامه التام بدوره ... الباب هو المدخل لكل شيء في الحياة وسواء كان الباب رحما أو موتا أو بابا عاديا فهو بالتأكيد يفتح الأفق للمزيد والمزيد من التأويلات ...

الخميس، 31 يوليو 2008

قصة ( صورته ) د. زكي العيلة


( صورته ) قصة قصيرة بقلم: زكي العيلة *
صور المرشحين وسير حياتهم الملونة البراقة، وضجيج الاختيار الصاخب يتناثر حول المرأة الصغيرة الشاردة التي تطأ صامتةً المركز الانتخابي.
نظرات المرأة المرهقة التي تلتف بردائها الأسود تغادر استمارة المرشحين والبرامج اللامعة، والسير المنمقة، والحبر الانتخابي دون أي التفاتة.
المرأة الصغيرة التي تمتلئ عيناها بحزنٍ يتسرب كغابةٍ موحشة ممتدة الفروع، تُخرج من تلافيف القلب صورةً متآكلة لطفلٍ حملته رصاصة القنص إلى القبر مبكراً.
تُمدد المرأة صورة طفلها في الصندوق، وفي عينيها المحتدمتين تتشبث رفرفاتٌ زاهية لأجنحة عصفور لا تغيب مناغاته.


في قصة (صورته) والتي جاء عنوانها مبهما كي يقف حائرا ما بين صورتين، الصورة الأولى (صورة المرشح للانتخابات، بسيرة حياته البراقة، وضجيج الاختيار الذي يتناثر حول المحيطين به) والصورة الثانية (صورة الشهيد، الطفل الذي لم تمتد حياته لتشكل سيرة ما، والذي قادته الرصاصة عنوة نحو القبر دون اختيار) وما بين الصورة المتآكلة والصورة البراقة وقفت امرأة صغيرة، وقفت ما بين الصورتين بصمت، وحيرة ، برداء أسود، وعيون مليئة بالحزن لتحلم بالغد، لتضع أملها القادم في فعل قد يقودنا لبر الأمان لكن هل يقودنا فعلا لبر الأمان؟؟ اختيار موفق لشخصية المرأة التي تمثل الخصب والأفق القادم وذلك التقابل ما بين السياسي المزيف في كثير من الأحيان وبين الحقيقي في الفعل الوطني الجبار... لنبقى على شفا الحلم ننتظر
اسئلة بعمق الفاجعة طرحها الراحل الكبير زكي العيلة في قصصه المكثفة رغم قصرها.


* د. زكي العيلة : قاص ملتزم وقلم وطني محترم وصديق يندر ان نجد مثله وككل الارواح الرائعة غادرنا بسرعة لكنه ابقى في قلب الجميع محبته التي لا تغيب. رحمه الله رحمة واسعة.

الجمعة، 13 يونيو 2008

خالد الجبور و(الولد الوحيد تحت الأشجار)

قمت بقراءات عديدة لنصوص شعرية وقصصية للشاعر القاص خالد الجبور أعتز بها وأفتخر ليس فقط لأنها ترصد تجربة جميلة جدا أتمنى أن تنال التكريم والمكانة التي تستحقها... ولكني أيضا لأنني وأنا اقرأ له اقرأ لكاتب فلسطيني حقيقي يعمل بصمت وبعمق على تجربته الغنية ...

النصوص هي التي تختار أدوات قراءتها... وهذا النص اختار طريقة قراءته وألقى بظلاله السياسية لتفتح المجال لتفحص الرموز والدلالات وفق هذا المعيار... ولا يعني هذا بأي حال من الأحوال أن تكون هذه هي القراءة الوحيدة ... فالنصوص العميقة الجديرة بالقراءة هي النصوص التي تتعدد مجالات الغوص فيها...

يبدأ خالد الجبور قصته بعنوان موح يكثف القصة لأبعد نقطة في فضاء القول... (الولد) الذي أصبح في زماننا المتخاذل رمزا للنضال...هل هناك منا من نسي (فارس عودة) الولد الذي يقف منتصبا أمام دبابة بيده مقلاع ؟؟ كان ولدا وحيدا... تماما كهذا الولد الوحيد أيضا تحت الأشجار... تماما كشعبنا الوحيد الذي يناضل في عنفوان وحده بينما ترثيه باقي الأمة ببيانات تنديد !

القصة قامت على ثنائية عميقة منسوجة بعناية في ثنايا القصة بداية من العنوان فالولد (تحت) الأشجار بينما وقف الطائر المسحور ينوح (على) غصن عال، أي أنه وقف (فوق) وما بين الحدين تكمن القصة ..القصة التي قال البعض إنها قصة للأطفال بينما قال آخرون إنها للكبار ، وفي اعتقادي أصاب الفريقان...فالقصة تماما كالأشجار... التي تضم إليها ال (تحت) وال(فوق) الجذر والغصن... السماء والأرض ... الثبات والحرية ..

الطّائر المسحور ظلّ ينوح على الغصن العالي : (( يا جوختي . يا جوختي !! )) ..

الطائر المسحور ..والولد الوحيد.ثنائية أخرى طائر/أمير فقد ملكه، وفقد كيانه الحقيقي، وفقد قدرته على المقاومة لانغراس المسلة في لحمه الحي .. والولد الوحيد الذي سكنته حكايات الجدة ( والجدة دائما ترمز للجذور، للقدم وللأرض والتراث ) وهو ما يدل على أن الطرفين "الطائر فوق، والولد تحت " تسكن كلاً منهما آلامُه المضنية، وكلاهما يبحث عن شيء ما... وكلاهما يرتبط بالآخر كما الدائرة، وهذا ما سنكتشفه في نهاية القصة التي تحيلنا للبداية....

والولد الوحيد تحت الأشجار، سمع نواح الطّائر الحزين، فحزن لحزنه، ولعن في سرّه العجوز السّاحرة التي خدعت الأمير، فسرقت عباءته الجوخ، وسحرته إلى طائرٍ سيظلّ يبكي عباءته إلى ما شاء الله !! ..

ربط النواح ما بين الولد والطائر فكلمة (سمع) شكلت هنا حبلا خفيا ربط أحدهما بالآخر بقوى أكبر منهما، فالسمع والأصوات وانتقالها بعض من كيان الطبيعة، لكن (حزن لحزنه) تقدم نحو الآخر بإرادة واعية (لعن في سره) فعل آخر ممعن في الإرادة ونام في الدلالة على الرفض...
الساحرة تحيلنا إلى ذلك العدو القليل الحجم لكنه قوي المكر والجريمة... فالساحر دائما شخص بغيض ممعن في الشر وقادر عليه، ولكن شريطة ضعف الآخر وغفلته.. أليس هذا ما حدث ؟؟ ما قالته التواريخ والأحدات... لننظر إذا في مفردات القصة (خدعت الأمير/سرقت عباءته/سحرته إلى طائر) الخداع ثم السرقة ثم السحر... أفعال في غاية الإتقان ...أوصلتنا إلى ما نحن فيه الآن ...لا يستطيع إنسان أن يخطئ الدلالة السياسية التي قامت عليها القصة ..بذكاء شديد جعلت البعض يغبن القصة ويظن أنها قصة عادية أو هي فوق العادية بقليل...

الولد الوحيد بحث عن الطّائر المسحور بين الأغصان، ليرى تاجه الملكيّ . قالت الجدّة – كما يتذكّر الولد – في ليلة شتويّة عاصفة، وهم حول الموقد المتوهّج بجمر الزّيتون : إنّ الطائر المسحور جميلٌ ككلّ الأمراء، وإنّ السّاحرة الملعونة نسيت تاج الأمير قبل أن تسحره، فظهر فوق رأسه على شكل ريشات ذهبيّة رائعة !!

يا جوختي ... يا عباءتي ... تلك الكلمة البسيطة لكنها مخادعة وذكية ... فالطائر الحزين ينوح على عباءته والعباءة ستر للجسد ولكنها أيضا عندما تكون لأمير تكون سترا للروح أي للملك الذي يشكل كيان هذا الأمير... وفعل النواح هنا فعل ضعيف وعاجز نسبه للأمير الذي رغم أنه مسحور، إلا أنه مازال يحتفظ بتاج ملكه لكنه تاج تحول إلى ريشات ذهبية.. ريشات تدل على الملك لكنها لا تشكله ...وقد بقي لأن الساحرة نسيته !

فجأة، سمع الولد صوت الطائر المسحور فوق رأسه تماماً، فميّز الحروف بوضوح كبير، ووجد نفسه يُردّد مع صوت الطّائر الحزين : (( يا جوختي . يا جوختي !! )) ..

فجأة... ترى هل هي حقاً فجأة ؟؟؟ الطائر المسحور أصبح فوق رأسه مباشرة، أي أنه تحرك وطار واقترب... قام بفعل يحتاج لزمن فلماذا الفجأة ؟ قد تكون فقط للدلالة على الإدراك فالفعل تم على مراحل لكن الإدراك تم فجأة .. كما اندلاع الانتفاضة التي يظن البعض أنها فجأة لكنه فعل تحرك في النفوس فترة طويلة احتاج لزمن كما حركة الطائر المسحور ذاته..

((وجد نفسه يردد مع الطائر المسحور)) أتراها إحالة إلى ما حدث في الانتفاضة الأولى ؟؟؟ نعم ... لقد استطاع النضج الذي سرى في النفوس أن يوحد النضال ولا يفرق بين كبير وصغير ويجمعهما معا في الانتفاضة الأولى، إذ كان الجيل الجديد يشارك ويقترب بخطى حثيثة مع الجيل الأقدم لكن....

الطائر المسحور سمع صوت الولد، وأحسّ بنغمة الحزن فيه ، فرفرف فوق رأسه قليلاً، ثمّ حطّ على الغصن الواطئ القريب من يد الولد ..

عندما سمع الطائر المسحور صوت الولد وأحس بالحزن فيه، عندها توحدت الروحان، عرف كل منهما مايريد بصرف النظر عما يعيشه، فالولد الذي يحن إلى قصص الجدة والطائر الذي ينوح على ملكه، كلاهما تقمص الآخر وسعى للوصول إليه عبر تبادل الإحساس الذي ربطها بالفعلين (سمع/حط - على الغصن القريب) وكأن الصوت ثم الحركة خطوتان في التحام هذين الشخصين، وكأن القصة وصلت في هذا الجزء إلى نوع من الالتحام، التحام الفوق بالتحت، الطائر بالولد، الكبير بالصغير، الروح والجسد، ...حركة الطائر دليل على أنه توقف عن فعله العاجز (النواح) ليتقدم نحو فعل حقيقي، الطائر تقدم نحو غصن واطئ... أي أنه اقترب من الأعلى إلى الأسفل، من الروح إلى الجسد، من الحلم إلى الفكرة ... واليد هنا لها دلالة كبيرة فهي لم تكن اليد التي عادة ما يهرب منها الطائر لأنها تمثل له ( لو كان طائرا حقيقيا ) الأسر... ولكنها هنا تخلت عن الصورة الحقيقية كما الطائر لتمثل الدلالة على الفعل... والتنبؤ به

ابتسم الولد للطائر المسحور، وأحنى له رأسه باحترام عظيم :
- مرحباً سيّدي الأمير ..
- أهلاً . أهلاً أيّها الصّديق .


ابتسم الولد، وأحنى رأسه باحترام، هنا اقتربت الشخصيتان من بعضهما ليس بالحوار فقط وإنما بدلالة كل كلمة فالابتسامة دائما دليل فرح حقيقي عميق، الابتسامة هنا تشبه فعل (سمع) كلاهما رابط ما بين الشخصيتين، الحوار القليل (سيدي/صديق) فالسيادة تدل دائما على السلطة وعلى ما تمثلها من قوة والصداقة تدل على التعادل والتفهم... إذا هنا في هذا الحوار البسيط يضع لنا الجبور شكلا عميقا لما يجب أن يكون عليه الوضع ما بين السلطة والشعب، ما بين الحاكم والمحكوم، ما بين الأمير وشعبه، ومحبة الولد وإخلاصه لفكرة الجدة وإيمانه بِها دلالة على أن هذه السيادة يجب أن تكون عن قناعة واختيار حقيقي...

تكلّم الطائر المسحور بلغة الإنسان، فاندهش الولد، وفرح كثيراً؛ إذ تأكّد من صحّة رواية الجدّة ..

تكلم الطائر المسحور بلغة الإنسان، اندهش الولد، وفرح كثيرا إذ تأكد من صحة رواية الجدة، نعم الولد يجب أن يفرح لأن الجدة لم تقل سوى الحق، وأن الطائر هو حقيقة أمير مسحور، الجدة التي مثلت تراثنا الذي نؤمن به ولا يخذلنا أو يتحول إلى خدعة كبيرة، والطائر هو حقا ملك ينتظر من ينقذه ويعيد إليه مكانته، هل هذا ما نحتاج له ولغرسه في أطفالنا ؟ نعم هو كذلك ورغم أن هذا العمق الذي وصلت إليه القراءة قد يعارضه البعض ويترجمه بشكل آخر بعيد كل البعد عما وصلنا إليه، لكن وفي هذه القصة ما وصلنا إليه من حقائق كان نتيجة حتمية لما قامت عليه القراءة وعمق الكلمات حتى هذا الجزء من القصة.

قال الولد للطائر المسحور :
- حدِّثْني يا سيّدي الأمير بحكايتك .
تنهّد الطائر المسحور من أعماقه، وفاضت عيناه بالدّموع التي تحوّلت، فور سقوطها، إلى دررٍ رائعة أدهشت الولد أكثر فأكثر، وقال :
- أخيراً وجدتك أيّها الصّديق !! ..
فتساءل الولد بفرح :
-أكنتَ تبحث عنّي ؟!!


الولد الوحيد، لم يعد وحيدا، لقد استطاع أن يصل إلى معنى لوجوده وحيدا تحت الاشجار، استطاع أن يحول خياله إلى واقع عبر تحول الحكاية إلى حقيقة، هنا الحوار أصبح أكثر التحاما بالحدث فهو شكل التحام الثنائيات ووصولها إلى صيغة مشتركة، فالبحث لم يكن فقط من الولد الوحيد بل أيضا من الطائر على الغصن العالي... لأن أحدهما لا يكتمل إلا بالآخر، واتحادهما يهزم الشر والسحر، كلاهما انتظر الآخر وآمن به ...كلاهما وجد في الآخر خلاصة،

هزّ الطائر المسحور رأسه بالإيجاب، ورفع جناحيه وقال :
- هنا، تحت هذين الجناحين، غرزت العجوز الساحرة مسلاّتها اللّعينة التي صيّرتني طائراً كما ترى، والتي لن يخرجها أحدٌ سواك !!


لن يخرجها أحد سواك، تلك المسلات المغروسة في اللحم الحي... هذه هي الحقيقة التي وصل اليها شعب بكامله، شعب أعزل لكنه يقاوم ...كلمة (أحد سواك) هي النتيجة الحتمية التي توصل إليها الشعب الفلسطيني بعد الخذلان الذي واجهه من أمته العربية والإسلامية، وإن أردنا أن نعمق الفكرة سنقول: إن الإيمان وحده والاقتراب من الروح كما فعل الولد الوحيد تحت الأشجار هو الحل الوحيد للخلاص... الصدق مع الذات والإصغاء إليها والإيمان بها هو وحده الخلاص والتحرير الذي نسعى اليه ...

اقترب الولد من الطائر المسحور، ودقّق النّظر تحت الجناحين، فرأى أطراف المسلاّت المغروزة في اللّحم الحيّ ..
- ها هي . ها هي !! ..
هتف الولد بصوته الرّفيع وقد غمره الفرح، ومدّ يديه يريد نَزْع المسلاّت، لكنّه، وفي اللّحظة ذاتها، وجد نفسه ينتبه إلى بقيّة ضوء النّهار ..
كانت الشّمس على وشك المغيب، وكان الولد وحده تماماً تحت الأشجار، بينما الطائر المسحور ما يزال على الغصن العالي ينوح : (( يا جوختي . يا جوختي !! ))


نهاية مذهلة ... نهاية ذكية بامتياز... نهاية جعلت القصة تدور لتعود لبدايتها، هل هذا ما رآه الكاتب في التاريخ الذي كتب عنه ؟ في الشعب المتروك وحيدا ؟؟ في تلك الثنائية التي انقسمت عميقا، تعددت والتحمت في جزء لكنها عادت لتنفصل إلى ثنائية من جديد، قد أكون عمقت القراءة لتصل إلى تسميات محددة وظروف سياسية محددة ومكان محدد هو فلسطين ... قد أكون فعلت ذلك لأن أصل الكاتب وانتماءه ألقيا بظلالهما على القراءة، لكن ولكي أكون عادلة في القراءة سأقول إن هذه القصة تحتمل قراءات أخرى متعددة فلسفية ربما، اجتماعية، وحتى قراءة تحتمل البساطة التي توحيها قصة جميلة بطلها طفل وحيد وطائر مسحور وساحرة شريرة، القصة توخت البساطة الشديدة في الكتابة لكنها عميقة جدا في الدلالة ...قصة أستطيع أن أقول إنها من القصص الجميلة جدا التي استطاعت بحذاقة شديدة أن تدوّر النص وتلقي في ثناياه بذورا متنوعة لكنها كلها حتما بذور قابلة للنمو.

الشاعر خالد الجبور.. أغبطك على نصك هذا الذي أوجز بكلمات شفافة معنى أن تكون شاعرا .. وإنسانا يحلم ..

أشياء (أمجد ريان) القديمة التي تفر في الهواء


هذه هي المرة الأولى التي اقرأ فيها للدكتور أمجد ريان... أعجبني الأسلوب المختلف وطريقة العرض التي تتخذ أسلوبا مميزا وبعيدا عن التقليدية لتقدم لنا ما يشبه الجرس عندما يقرع لإيقاظنا من غفلة ما... (عيون صقرية) و(أشياء قديمة تفر في الهواء) تحمل نفس الطابع المميز للكاتب وليس من العسير أن نربطهما معا..لو لم نعلم أن كاتبهما هو نفسه...

في هذه القصة القصيرة التي تقرأ بطريقتين مرة من الأعلى للأسفل ومرة بالعكس أي تقرأ من نهايتها عودة للبداية ليكتمل الاستيعاب الرمزي لما طرحة الكاتب.


نحسُّ بنشوةٍ عارمة .. كلُّنا ، أنا وأصدقائى .. نلتفُّ حول المنضدةِ شبهِ المستديرة .. ونتبادلُ أجملَ الكلام ..


تبدأ القصة بفعل (نحسُّ) وهو فعل داخلي بالغ الرقة وكأن القاص أراد أن يوجه عنايتنا منذ البدء أن ما سيجئ هو حدث شعوري بالغ الرقة والرهافة..فأتبع الفعل (بنشوة عارمة) ليدخلنا بقوة إلى هذه الكتابة التي تقلب في النفس البشرية أكثر بكثير مما قلَّبت الشخصية أشياءها القديمة... (كلُّنا، أنا وأصدقائي) هذه الجملة تشبه أسلوب الكاتب بكل ما يجيء (كلُّنا) كلمة جامعة وشاملة لكنه بعد ذلك يفصلها (أنا وأصدقائي) وهذا ما سوف يقوم به فيما بعد، ( المنضدةِ شبهِ المستديرة) هنا جملة رمزية تعبر عن الأرض فلو كانت منضدة حقيقية فهي إما مستديرة أو بيضاوية، لكنها (شبه مستديرة) فالأصدقاء وهم يلتفون حول المنضدة ويستعيدون الذكريات كأنهم يقفون في صورة نعرفها ونعيها بل ونجلس معهم ونحسُّ بشعورهم أيضا.


كلامَ الذكريات .. ذكرياتِ الطفولةِ والصبا .. أجملُ ذكرياتِ الإنسانِ هى ذكرياتُ الطفولةِ والصِّبا .. كنا نضحكُ منطلقين صادقين ..

الذكريات التي يتحدث عنها القاص ويفصلها تفصيلا قد يظنه البعض استرسالا وإطاله أشعر به هنا وكأن كل صفة من صفات هذه الذكريات رمز لمرحلة عمرية وحياتيه.. يتمناها القاص ويتمنى العودة إليها، إضافة إلى أن هذا الأسلوب أسلوب خاص بالقاص نفسه يميزه عمن سواه..

نتذكَّرُ أيامَ الفوضى الجميلة .. أيامَ الحبِّ العذرىِّ والبَساطة .. أيامَ المِزاجِ الرائق .. كنا نتكلّمُ كلُّنا ولِفرطِ فرحتِنا ببعضِنا .. وبلقائِنا ..

الفوضى الجميلة، الحبُّ العذري، المزاج الرائق، كل هذه الكلمات الموحية تعبر عن مراحل عمرية وحياتيه خاصة، مرحلة الطفولة وفوضاها الجميلة، المراهقة وقصص الحب الجميلة، الشباب وأيامه الرائقة، الكلام في وقت واحد يعبر عن المرحلة بعموميتها، فالأصدقاء الأقران يعيشون ذات القصص والواقع والأحلام، وكأنهم يتكلمون في وقت واحد، ومع ذلك فالكل مصغ والكل متابع

ولفرطِ فرحتِنا بحديثِنا .. كنا نتكلَّمُ فى الوقتِ نفسِه .. نتكلّمُ كلُّنا فى الوقتِ نفسِه .. أو يتكلمُ اثنانِ مِنَّا فى الوقتِ نفسِه .. لكنَّنا وبالرغمِ من ذلك .. كنَّا نفهمُ كلَّ ما يُقال .. لأن الذى يستمعُ فى هذه اللحظاتِ ليست الآذان .. بل القلبُ هو الذى يسمع .. كان حديثُنا تتخلَّلُه الابتساماتُ الرقيقة .. والإيماءاتُ المنتشيةُ الذكيَّة ..

في مرحلة ما من مراحل العمر التي نستعيدها في هذه القصة نشعر بكل هذا الوصف الحميم وكأننا نعيشه ونتمثله أمامنا، الكلمات هنا لم تكن تعبر عن جو عام ومشاعر وصفية ، وإنما كانت تنغمس في روح تلك المرحلة الجميلة من أعمارنا معا..وتأخذ منها دلالات تبذرها في داخل النص، فالكلمات هنا التي تقدم وصفا خارجيا لاجتماع الأصدقاء وتحدثهم في الذكريات هي ذات الكلمات التي تحرك عمق الحدث وتستدعي لحظات غائبة بشفافية بعيدا عن التعقيد أو الاسترسال.

وعندما جاء الشاى كنّا كلّنا متحلقين حوله .. وضعنا السكَّرَ فى الأقداح .. الأقداحِ التى هى فناجيلُ كلاسيكيَّةٌ كبيرة .. ناصعةُ البياض .. تُصدرُ أصواتٍ تشبهُ أصواتِ الأجراس .. كلما أمسكْنا الفناجيل .. وكلّما وضعناها على الأطباقِ الصغيرة .. إنها تُصدرُ هذه الأصواتِ لأنها مصنوعةٌ من الصينى النقىِّ الصافى .. وعليها رسومٌ خلاَّبةٌ لحدائقَ غنَّاء .. تمشى فيها الأميرةُ الجميلة .. رسومٌ رائعةٌ حول الفناجيل . ونحن نرتشفُ الشاىَ فى فَرَحٍ وفى حبور ..

الشاي الذي وضعنا فيه قطع السكر والفناجيل والرسومات وانعكاسها كلها متابعة دقيقة لمفردات الإنسان من جسد وروح وحياة وأحلام، متابعة رائقة وبكلمات جميلة ستشكل مع الجزء الثاني من القصة مجمل حياة الإنسان لتنقل بُعدا جديدا للقصة أشعر به بعيدا عن الكلمات وهو ذلك البعد الذي يتوخى التأثير في شعور القارئ، فالكلمات في البداية تشعرنا بالفرح والصفاء بعكس ما سنشعر به في الجزء الثاني وهو الجزء الذي استخدم فيه الكاتب كلمات من مثل (القلق، اليأس، التراب، الخوف، الفوضى..الخ) وهذا يحتسب للكاتب فكل قراءة للقصة تقشر عنها بُعدا جديدا تكون في صالح القاص وقصته دائما.

ولكننى عندما تذكرتُ ماكنتُ قد نسيتُهُ منذ الصباح .. قمتُ على الفور .. واتجهتُ نحو الحجرةِ الداخليّة ..

هنا سأتوقف عند جملتين (تذكرت ما كنت قد نسيته) و(الحجرة الداخلية) القاص هنا لم يفصح عمّا نسيه لأن الإفصاح عن ذلك الشيء يحجمه ، والقصة لم ترد هذا ولم تسع إليه فهي قصة تعبر عن الكل في سرد يخص الجزء...(كلنا، أنا وأصدقائي) هي قصة عامة تعبر عن القارئ مثلما تعبر عن الكاتب، والقيام والاتجاه للحجرة الداخلية رغم أنه حسي في القصة إلا أنه في القراءة التي تخصها هو معنوي، فالحجرة الداخلية هي قبو في الذاكرة وفي الحياة يحمل ما تحمله تلك الحجرة الداخلية من أشياء نسيناها ونفتش عنها دون جدوى.

أخذتُ أنظرُ ذاتَ اليمين وذاتَ اليسار .. نظرتُ على المنضدةِ وتحتَها .. ورفعتُ القميصَ من على المِقْعد .. لأنظرَ تحتَه .. ثم سحبتُ المِقْعَدَ وجعلتُهُ بالقربِ من "الدّولاب" .. ووقفتُ عليه فصار وجهى فى مستوى أعلى "الدّولاب" .. وبدأتُ أتفحَّصُ أعلى "الدّولابِ" بقلقٍ شديد .. مدَدْتُ يدى لأقلّبَ فى الأشياءِ التى فوقَ الدولاب ..

الحدث المروي في القصة، حضور الأصدقاء وحديث الذكريات والبحث والاسترسال فيه حدث حسي يتحرك ضمن شروط القصة وزمانها المحدود لكن استخدام الفعل بذكاء وإدارة هذا الحدث لاحتوائه بعدا أكبر بكثير من بُعده المادي الحاضر جعل القصة أجمل وأعمق واكثر قدرة على جذب القارئ بكل مستوياته.

وقد استبدَّ بى القلقُ واليأس .. أخذتُ أرفعُ الأشياءَ المكدَّسةَ التى تراكمتْ بمرورِ الزَّمانِ فوق "الدّولاب" .. شعرتُ بالخوفِ وبالذُّعر .. وأخذتُ أرفعُ الأشياءَ المركونةَ فوقَ الدولاب .. الأشياءُ التى تُغطيْها طبقاتٌ سميكةٌ من التراب .. الترابِ الدُّهنىِّ الغليظِ الذى يضايقُ أطرافَ الأصابع .. لقد لوَّث الترابُ أصابعى .. وصارت يداى مليئتين بلونِ الغبار الأسود .. ولازلتُ أبحثُ وأقلِّب ..

ترى كم منا قام يبحث عن شيء نسيه فإذ به يصطدم بكل هذا الغبار والأتربة واللزوجة المقيته ؟؟ كم جلسنا مع أنفسنا نستذكر لحظاتنا الجميلة فإذ بملامحنا تجمد وأعصابنا تتوتر ونحن نمر على طرقات في الذاكرة نسيناها أو تناسيناها ؟؟ كم أصابنا الفزع ونحن ندرك أننا نسينا أجمل ما فينا ومهما بحثنا عنه لن نجده لأن الزمان لم يترك لنا فرصة أخرى ؟؟؟
هل عليّ أن أضع تخمينا لما نسيته الشخصية ؟؟؟ لا وليس على القاص نفسه أن يفكر بهذا ، لأن كلاّ منا يدرك هذا الشيء وسوف يبحث عنه في لحظة ما وسيصاب بالفزع وهو يرمي بالأشياء فتتناثر على أرض الذكرى ، وتحدث فوضى عارمة وإحباطاً مريرا .

أصدقائى صاروا ينادوننى برِقَّةٍ من الصالة .. وأنا لا أردُّ عليهم لفرطِ انهماكى فى البحثِ العنيف .. قذفتُ بالأشياءِ الموضوعةِ فوق "الدّولاب" إلى أرضِ الغرفةِ تباعاً .. أصدقائى ينادوننى بأعلى صوت .. وأنا أستخرجُ الأشياءَ من فوقِ "الدّولاب"ِ .. وأقذفُ بها على أرضِ الغرفة .. حتى صارت أرضُ الغرفةِ مزدحمةً بفوضى الأشياء .. صارت أرضيَّةُ الغرفةِ ذاتَ منظرٍ بَشِعٍ يُفْزِعُ العيون .. أصدقائى ينادوننى من الصَّالةِ بأعلى ما يملكون من صوت ، وأنا أقذفُ بالأشياءِ على أرضيَّةِ الحجرةِ بعصبيّةٍ وبسرعةٍ وبقوةٍ لم تعرفْها ذراعاى من قبل ، وعضلاتُ وجهى كانت منقبضةً بشدّه .. وحُنْجُرتى تُخرجُ هذا الصوتَ المُتَّصلَ الذى يُشبهُ النَّحيب .

ما زلنا في غياب الذكريات الجميلة ، لكن الشخصية نفسها بحثت أكثر في ثنايا الذاكرة الداخلية لتستخرج كل ما نسيته ، فأورثها ذلك تعبا شديدا، كثيرا ما نجلس مع الأصدقاء ، ثم تأخذنا الذكريات فجأة فإذ بنا نغيب عن حاضرنا ولا نستدرك وجودنا الحقيقي إلا بنداء قد يأتي رقيقا في البداية ثم حادا ممن حولنا، لكن (الصوت المتصل كالنحيب) أخرج الشيء الذي نسيناه إلى العلن..

القصة بدأت بشعور بالنشوة، وانتهت بصوت كالنحيب، انقسمت إلى جزئين الأول مفعم بالحياة والضحك والفرح والجزء الآخر باليأس والقلق والحزن، قالت بكلمات الكثير الكثير مما يقدم لنا قصة جميلة محكمة البناء، الحدث قدم على عدة مستويات الأول الحدث العادي : اجتماع الأصدقاء ، وحديث الذكريات ، وتذكر الشخصية لشيء نسيته ، تبحث عنه وكل هذا لا يستغرق أكثر من عدة ساعات، والحدث المستتر وهو النص المؤول إلى أبعاده الخفية الأخرى.

قصة جميلة وأسلوب مميز .
بقي أن اسأل وبصدق ما حكاية الياء والألف المقصورة في مصر ؟؟؟