الجمعة، 24 يناير 2020

قراءة في نص "بيان عادي في انثى استثنائية" للاديب سامح كعوش...



تأسرني المسافة دائما بكل تأويلاتها وابعادها... وهذا النص "بيان عادي في أنثى استثنائية" يحتفي بالمسافة ما بين الانثى والذكر بكامل بهائها... المسافة التي تشكل اهم مكونات هذه الحياة فالحياة بدأت بذكر وانثى... بثنائية الاضداد تلك التي تميز الخالق عن المخلوق فالخالق واحد أحد وما عداه أنصاف...  واهم هذه الانصاف هما ادم وحواء بالمطلق...منذ البدء حتى الختام وهذا النص يبحث في العلاقة المعقدة بينهما...ولهذا حرص الكاتب على تعريفهما ب"ذكر" و"انثى" ليضفي على النص ابعاده المرجوة.... 

((عندما يتشكّل الطفلُ الذكرُ في رحمِ أمّه، تنعقدُ صلةٌ غريبةٌ بينه وبين النساء، صلةٌ تجعله في لا وعيه مسكوناً بكل نساء الأرض، مأسوراً برغباتهن الغريبة، وغواياتهن الأكثر غرابة، فاهماً أبسط احتياجاتهنّ، مسلّما بها، ومستسلماً لها.))

رغم ان العلاقة بين الذكر والانثى بدأت منذ بداية  الخليقة حين قرر الخالق أن يشكل بيديه "ادم" ويخلق له "حواءه" الا ان الكاتب بدأ نصه بالتشكل في رحم امه... ليقول ان الصلة بدأت من هنا... والحقيقة ان هذه البداية هامة لانها اعطت للنص خصوصية هامة مبتعدا عن الظلال التي قد تضفيها حكاية الخلق التي لا ندري حقيقتها تماما على هذه العلاقة الشائكة... اذا تبدأ المسافة بينهما بهذا القرب الفائق القوة ... تشكل الذكر في رحم الانثى... علاقة وجود تكون فيها الانثى هي المهيمنة كمانحة للحياة فالطفل الذي يتشكل بالرحم اي يختبئ في جسد الانثى "يتشكل" وكأن هذه المفردة تعطينا صورة عميقة جدا لبداية هذه العلاقة فأن يتشكل انسان في داخل انسان فهو بهذا مدين له بوجوده جسدا وروحا....ورغم انه اعتبر ان هذا "التشكل"سببا في "صلة غريبة بينه وبين النساء" وهنا جمع "امه" بالنساء اي بكامل العلاقات التي ستربطه بالانثى في المطلق..الام ، الابنة، الزوجة او الاخت... وما في مقام هذه العلاقات كالحبيبة او الحفيدة ... لكن لماذا "صلة غريبة" ... لنرى "تجعله في لاوعيه مسكونا بكل نساء الارض" واختيار اللاوعي مهم جدا هنا ليضفي شرعية لتحول هذه الصلة وتنوعها فيما بعد... "الرغبة" و"الغواية" و"الحاجة" هل حقا هناك من يفهم كل هذه الامور عن امرأته ؟؟ فما بالك بنساء الارض ؟؟؟ وهل حقا التفعال "مأسور" و"فاهم" و "مسلم" و"مستسلم " وكأن هذا التشكل وهذه الصلة في اللاوعي تكون في بدايتها علاقة طاعة استسلام وتفهم ....وهنا نعود للمسافة هل المسافة "القريبة جدا" تغلبت على الفروق بين الذكر والانثى واوجدت هذا التناغم بينهما ؟؟ التناغم في اللاوعي ؟؟؟

((عندما يتشكّل الطفلُ الذكرُ في رحمِ أمّه، يتشكّلُ زهرةً، فلةً، سوسنةً، يتسلّح بما لديها من حنان يكفي الكون، ومن عطفٍ يروي صحارى النفوس الفارغة والقلوب المتحجرة، والوجوه المتكسّرة في مراياها.))

رغم ان الكاتب كان من الممكن ان يستغني عن الكلمات "زهرة، فلة وسوسنة" الا اننا نستطيع ان نستعير من هذه الكلمات ان عمر الجمال قصير تماما كعمر تلك الاشياء الجميلة التي نبدأ بها الحياة فنبدأ بقلوب صافية لا تحمل سوى الحنان والعطف وكل الاحاسيس الجميلة التي نبدأ بها الحياة قبل ان تعيد تشكيلنا ... والام دائما مرتبط وجودها في حياتنا بهذه الكلمات "الحنان والعطف" لانها بداية هذه العواطف واهم ما فيها... 


((عندما يتشكّل الطفلُ الذكرُ في رحمِ أمّه، يستمدُّ إرادة بقائه من رغبةِ أبيه في لحظة شغفه بأنثاه، وولوجه فيها، فلا يبقى من تلك اللحظة إلا فيض الحب الذي تدفق في صخرها من نبعه، وروى صحراءها بماء شغفٍ أزليٍّ اغتسل بالشمس.
عندما يتشكّل الطفلُ الذكرُ في رحمِ أمّه، يقرأ أفكارهما معاً، ويراهما معاً واحداً شهياً مشتهى، ومنتهى في العشق حتى آخر مداه، صلتُه بهما روحٌ تتكوّن، وترديدُ ما ينصتُ إليهِ منهما، ولا تحدّهُ يداه.))

هذا المقطع ذكرني بما قراته عن تشكل وعي الجنين في رحم امه وعن احساسه بها... وهنا يبتعد هذا الطفل الذي يتشكل بالرحم ليرى صورة اكبر...ليرى الام والاب معا... ليشعر بهما بتلك اللحظة التي اوجدته ..."لحظة شغفه بأنثاه" بافتراض ان العلاقة التي اوجدت هذا الطفل علاقة "شغف" و"عشق" والمقطع هنا الحقيقة استوقفني لغرابة الوصف "تدفق في صخرها من نبعه" والمفترض العكس..فالمرأة دائما ما تتصف بالخصوبة لا "الصخر" و"الصحراء" ولكن لنتابع ما يشعر به "الطفل الذكر" حيال ابويه.... "يقرأ افكارهما معا" ويراهما معا " صلته بهما روح تتكون ....وكأنه بهذا يعطينا صورة تلك العلاقة وهذا الوجود ما بين التشكل وما قبل الولاده وهي مسافة شهور تعطي للطفل الكثير مما يستطيع ان يحسه او ينصت اليه ... لكن " لاتحده يداه" وهذا ما اثبته العلم وليس فقط النصوص الرومانسية ... فالطفل يستطيع ان يشعر بأمه واحاسيسها ...وعلاقتها بالاخرين ... وبالطبع علاقتها باهم الاشخاص وهو الزوج او الاب... وكل هذه التعابير تقود مسافة اخرى ما بين الانثى وطفلها كمسافة قريبة وايضا الطفل وما يبعده عن والديه اي المسافة الزمانية للولاده وهي اهم المسافات التي تشكل لا وعينا بعلاقاتنا الهامة بالاخر....

((عندما يخرجُ الطفلُ الذكرُ من رحم أمّه، يُحرمُ من دفءِ لحمها وفيض مائها وغذاء دمها، حتى الهواء الذي يتنفس لا يعود يكفيه بذرات أوكسجين ملوثة، ملوّنة بالغبار))

العبارة اعلاه سبقت تحول النص من العام الى الخاص... من الحديث المطلق الى الحديث الخاص المعبر عن الذات... وكانه انفصال اخر فانفصال الطفل عن رحم امه جعله يحرم من الدفء والماء والغذاء، واخرجه الى هواء ملوث ومليئ بالغبار... فهل هذا ما فعلته الحياة بنا كبشر او هذا ما فعلته الحياة بالكاتب ...

 ((هكذا أنا في علاقتي بكِ، والتصاقي فيكِ، واشتهائي لكِ، وانتهائي إليكِ، أنا ذكرُ الحرمان والانتظار القاتل، ذكرُ الهشاشة والبشاشة معاً، الذكرُ المتقلّب بين المضحك والمبكي، يُعلنُ البهجةَ ولا يقوى على أن يذرفَ دمعة تحزُّ شرايينَ روحه الحيرى.))

في هذه العبارة يجمع الكاتب علاقته بالانثى في عبارة مكثفة "علاقتي بك" وهنا لم تعد الانثى هي الام فقط التي يتشكل في رحمها، وانما الانثى بالمطلق، يجمع بهذه العبار جميع العلاقات التي تربطه بالانثى واهمها طبعا الام "التصاقي بك" ولهذا بدأ به ثم الحبيبة "اشتهائي لك"... ليقدم لنا صورة تناقضاته هو ليس في  علاقته بالانثى وحدها وانما بهذا الكون ... "ذكر الحرمان..الذكر المتقلب..." وقد تكون هذه الصور جميعها نتيجة حتمية للعلاقة الاصلية بالانثى الا انني سأتوقف هنا عند عبارة " لا يقوى على ان يذرف دمعة تحز شرايين روحه الحيرى"  نحن نعرف جميعا ان الرجل لا يبكي بسهولة وانه يخفي دمعه ... وان الدمعة للرجل قاسية واننا في مجتمع لا يعطي للرجل هذه الفرصة ليخرج ما في داخله... والحقيقة ان هذا لا يعود بشكل كامل للعادات الشرقية التي تعطي للرجل صورة القوي والمهيمن وغير القابل للانكسار....وانما تعود بشكل عام لطبيعة خلق الرجل فالرجل خلق من طين... من مادة خلقه الاولى ... وطبيعته قاسية تنتقل بحدة ما بين الانفعالات ... بعكس المرأة التي خلقت من ضلعه اي من المادة بعد تحولها ...فاخذت طبعا اقل قسوة واكثر رقه وقدرة على التعبير عن انفعالاتها بعكس الذكر...

((عندما يخرجُ الطفلُ الذكرُ من رحم أمّه، يخبّئُ الزهرةَ في قلبه ويُعلنُ القسوة، اللا ألفة، التحفّز الدائم ضدّ كل شيء، للا شيء.
عندما يخرجُ الطفلُ الذكرُ من رحم أمّه، يخجلُ من رغبةِ أبيه ولا يعترف بأنّه ثمرتها، ينحاز إلى الوسيلة ولا يرى الغاية، ينحاز إلى الصخرة ويدير ظهره للنبع، يتوضأ بماء حياةٍ تكره نفسها، تبغضُ تكرارها ورتابتَها، ولا تغتسل بالشمس.))

ترى هل تُقرأ النصوص بعيدا عن اصحابها ؟؟ بالطبع فلا يتأتى لنا ان نعرف اصحاب النصوص  الا فيما ندر ونقترب من النصوص التي تأسرنا بتاويلاتها المتعددة ومسافاتها التي تقترب فيها من حياتنا وافكارنا... النصوص التي تدهشنا او تدعونا للتساؤل هي النصوص التي تستحق القراءة والتوقف عندها....قرات الفقرة عدة مرات وحاولت التعرف على ملامح كاتبها ولم افلح هل هو الذكر في المطلق ؟؟؟ ربما فالرجل ينحى للتحلي بالصورة المرسومة له مسبقا... القسوة والتحفز الدائم....وبدون الخوض بمعنى كل مفردة الا ان الفقرة بالمجمل تعطينا الصورة التي كبر عليها هذا الطفل الذكر...الصورة التي تشكل ملامح الرجل بالمجمل والشرقي بشكل خاص...فالعبارة المكررة " الطفل الذكر"  اتت  بشكل متعمد وواضح وكانها بتكرارها الكثير في النص تعطي لعبارة "انثى استثنائية " في العنوان توازن هام جدا ... وهنا اود ان اشير الى ان الخالق في اعطائه صفة من صفاته وهي اعظم الصفات "الخلق" للانثى يعطيها توازن يعيد اليها ما اخذه "الذكر" من حقوق كثيرة ومن يفهم هذا التوازن سيعرف انه رغم ان المجتمع واللغة وكثير من الامور "ذكورية" الا ان الانثى كانت وستظل معادله له بل انها مفضلة عليه بهذه الصفة البالغة الخطورة والاهمية وان المرأة بمطالبتها بالمساواة تقلل من قيمتها الحقيقية وتسعى لاخذ القليل المعطى للذكر....

((عندما يخرجُ الطفلُ الذكرُ من رحم أمّه، تحدّهُ أفكارُه ويداهُ، وعيناهُ وخطوُهُ، فلا يقرأُ أفكارهما معاً، ولا يراهما واحداً حين يتضادانِ، يفترقان أو ينقسمان أو يقتسمان أو يحترقان، يقعُ لاحقاً في انعكاس الصور وتشظي الوجوه والفكرة، يقعُ لاحقاً في العِبرة.))

في هذه العبارة لخص الكاتب عقدة النص واهم ما فيه بل ربما سبب كتابته له ... وهنا رغم ان العبارة تتحدث عن خروج الطفل من رحم امه الا انها تذكر كل "ذكر" على وجه الارض ... تحده افكاره ويداه...وعيناه وخطوه...هل يحتج الكاتب على مصير الذكر المحتوم او ينتقده ؟؟؟ هل يفصل نفسه عن هذا الطفل ام يلتصق به ؟؟؟ هنا وان بدا الحديث عن الابوين... الا انه ينطبق ايضا على صورة الذكر في حياته القادمة... "يقع لاحقا في انعكاس الصور" نعم يقع في نفس الاشكاليات التي وقع فيها الذكر سابقا وسيقع فيها لاحقا.... العلاقة الغريبة بين الذكر والانثى منذ البداية وحتى النهاية ستبقى مأزومة وتحتاج  الى الكثير من التامل حتى نفهمها ولكن هل نفهمها ؟؟؟ ربما ولكن هذا الفهم بالتأكيد سيأتي متأخرا جدا ...او  حتى "يقع لاحقا في العبرة" والعبرة لا تأتي الا متأخرة جدا تأتي نتيجة طريق طويل وعلاقات متشابكة ....

((هذا الطفلُ الذكرُ الذي يتشكّل في رحمكِ، حلمِك، لحمكِ، لا تخرجيه إلى الحياة ليموت.))

 هل كل حياة موت ؟؟ نعم فكل حياة بداية لطريق ينتهي بالموت... ولكن هنا موت كل الاشياء الجميلة التي تفتحت في قلب "الذكر" اثناء التصاقه بالانثى او بشكل خاص برحم الانثى....الرحم الذي يعطينا كل اسباب الحياة والدفء والمحبة ...الرحم الذي يشكل لنا درعا في مواجه الحياة التي تقتل اعمارنا من لحظة الولادة ...الحياة التي تشكلنا بعكس ما نكون عليه... تاخذ منا البراءة وتعطينا ارثا بشريا ملوثا بكثير من المفاهيم الخاطئة ... لا يغيب عن الكاتب كل ما تفعله الحياة بنا ... فهي تغير سلوكنا وتحد افكارنا وتقلم اظافرنا وتأسر ارواحنا الحياة التي لا تعطينا ما نريد وترسم لنا ما تريد... الحياة التي لا يجب ان نتعامل معها باستسلام بل بحرب دائمة لنحافظ على ارواحنا بريئة او على الاقل معافاة من تلوثها...العبارة " لا تخرجيه الى الحياة ليموت" قاسية لكنها حتمية ... مؤلمة لكنها هي الوجود ذاته.... 

ليست هناك تعليقات: