الجمعة، 16 نوفمبر 2018

بين بابين رواية  "بدر أحمد"

المرة الاولى التي اقرأ بها للكاتب اليمني "بدر أحمد" والحقيقة أن اقتنائي للرواية كان بتوصية من الناقدة الصديقة هدى جولاني ورغم أنني بت اتوجس من الكتب ذات الاصدار الحديث والتي اصبحت تباع كما تباع المنتجات الزراعية في سوق الخضار لكثرة من "يعتبرون انفسهم كتاب" ولكثرة تدني عملية النشر الى مجرد تجارة ولم تعد كالسابق عملية هامة في البنية الادبية والثقافية للمجتمعات...  لكن الرواية وصدقاً امسكتني حتى النهاية رغم أن البداية مربكة قليلا لكن اسلوب الكاتب المميز اطل بسرعة ليمسكني كقارئة جديدة ....

الرواية ببساطة تتحدث عن شخصية "رغم أننا رافقناها طوال 150 صفحة الا اننا لا نكاد نعرفها ... تبدأ الرواية في زنزانة لا يعرف ساكنها لماذا وضع فيها ولا يصله من العالم الخارجي الا ما تحمله له يدي سجانه ...الذي لا ينطق الا ببضع كلمات "الأواني الفارغة يا ابن الفاعلة" ...لكن خلال هذا الالم الطويل يتذكر بطل الرواية مواقف واحداث قد تكون غير مترابطة ظاهرياً لكنها شديدة الاحكام لتقدم لنا عملا جيدا ويستحق القراءة...الرواية مؤلمة سوداوية او "بوهيمية" تصف بشاعات الحرب سواء تلك التي حدثت في لبنان او على الجبهة بين العراق وايران ...الى بعض المشاهد التي تتحدث عن والديه وعن رجل وامرأة لا نعرف علاقتهما به ...عبر ذاكرة تبدوا كما لو كانت ضوء معلق يتحرك في كل الاتجاهات فيكشف المكان هنا وهناك بعشوائية مباغته... حتى نصل الى نهاية الرواية والتي وضعتها كأحد الاحتمالات التي تنسجم مع ماوصلني من الرواية....

ليس غريبا ان يختار الكاتب بضعه اسماء لشخصيات عاشرها البطل لما لها من دلالات هامة في النص اولى تلك الاسماء "مريم" تلك الفدائية العنيدة والتي تحولت في جزء اخر من ذاكرته الى شخصية مختلفة تماما تضج انوثة لتأخذه من لا مبالاته وضياعة الى ضياع اكبر حين تقوم بقتل احد القادة ويتم اغتيالها ....وهنا رجحت ان هذا سبب الزنزانة...لعلهم اعتقدوا انه شريكها بالجريمة... ولكن بعد مضي بعض الوقت لم يعد هذا مهما "مريم" اسم له دلالته العميقة واعتقد ان اختياره كما اختيار باقي الاسماء ناجح جدا في تقديم عمل محكم...

... ثم الاسم الاخر "أنس" وهو ما اطلقة البطل على وجه من الحصى قام بصنعه في زنزانته فالاسم  مأخوذ من "الانس" وهو الذي آنس وحشته في الزنزانة المعتمة والرطبة التي تعج بالرطوبة والصراصير والوحشة لكن هذا الوجه يتحول الى حصى يرمي بها الدلو الحديدي الذي يتبول به بعد ان يعثر صدفة على زر كهرباء ينير الزنزانة المعتمة والتي يستغرب ان السجان لم يشر اليه.... الى الاسم "خلف" وهو الجندي العراقي على الجبهة في الحرب الايرانية الذي اكتشف اصابته بحصى الكلى وساعده للنجاه وهو الذي شهد الظلم وهرب الى كندا ليتزوج مجندة فقدت ذراعيها وساقيها في الحرب ليعيش معها على اموال المساعدة من امريكا.. وليرسل معونات لاسرته بالعراق...ثم "مصطفى" القبطي المصري الذي حضر ليعمل ووجد نفسه في الجبهة تنفجر رأسه امام خلف ورفيقه...

الرواية قراءة لهذا الحاضر الذي نعيشه وعشناه عبر الحروب الفلسطينية الاسرائيلية والعراقية الايرانية ...عبر الاحداث العالمية وعبر الازمات النفسية التي تمر بها الاسرة العربية ...ليس مهما ان تحدد ارض المعركة فكلها حروب تفجر الرؤوس وتغتال الارواح و تنثر الدمار والالم ... وكأن الكاتب مر على ما حدث على مدار ثلاثين او اربعين سنة مرت في رواية من الحجم المتوسط ليضع امامنا صورة قاتمة لما مر بنا وما سوف يمر ..... الرواية رغم انها فصلت مشاهد كثيرة وكلها تقريبا يعمها الدمار والموت لكنها في ذات الوقت تتحدث عن الازمة الداخلية بين بطل الرواية وذاكرته او حياته التي تطل عليه من بعيد....

قلت قبل قليل انني حدست بنهاية الرواية والحقيقة ان هذا حدث لانني كنت دائما افكر بأن أي إزمة يعاني منها الانسان  تتركه في قاع بئر لا يستطيع النجاة منه الا بتصفية الذهن واكتشاف ما حوله والبدء في البحث عن مخرج... واننا في هذا العصر كلنا داخل بئر عميقة نحتاج الى الخروج منها عبر البحث عن ممر يفضي بنا الى الخارج...

ربما ان ما شهده هذا الجيل والذي ينتمي اليه الكاتب لم يشهده جيل اخر... ولن يشهده لكن الكاتب بدر احمد بذكاء استطاع ان يحصر ذلك كله عبر رواية رغم بساطة احداثها ظاهريا الا انها عميقة وتقرأ على عدة مستويات ... وهنا اعود للعنوان لاتساءل عن البابين الى اي الاتجاهات يفضي كل منهما بل ... لماذا اختار هذا العنوان وهل هناك نجاة أم ان الخارج كما الداخل سيبتلع ملامح اجسادنا !

ليست هناك تعليقات: