الجمعة، 13 يونيو 2008

خالد الجبور و(الولد الوحيد تحت الأشجار)

قمت بقراءات عديدة لنصوص شعرية وقصصية للشاعر القاص خالد الجبور أعتز بها وأفتخر ليس فقط لأنها ترصد تجربة جميلة جدا أتمنى أن تنال التكريم والمكانة التي تستحقها... ولكني أيضا لأنني وأنا اقرأ له اقرأ لكاتب فلسطيني حقيقي يعمل بصمت وبعمق على تجربته الغنية ...

النصوص هي التي تختار أدوات قراءتها... وهذا النص اختار طريقة قراءته وألقى بظلاله السياسية لتفتح المجال لتفحص الرموز والدلالات وفق هذا المعيار... ولا يعني هذا بأي حال من الأحوال أن تكون هذه هي القراءة الوحيدة ... فالنصوص العميقة الجديرة بالقراءة هي النصوص التي تتعدد مجالات الغوص فيها...

يبدأ خالد الجبور قصته بعنوان موح يكثف القصة لأبعد نقطة في فضاء القول... (الولد) الذي أصبح في زماننا المتخاذل رمزا للنضال...هل هناك منا من نسي (فارس عودة) الولد الذي يقف منتصبا أمام دبابة بيده مقلاع ؟؟ كان ولدا وحيدا... تماما كهذا الولد الوحيد أيضا تحت الأشجار... تماما كشعبنا الوحيد الذي يناضل في عنفوان وحده بينما ترثيه باقي الأمة ببيانات تنديد !

القصة قامت على ثنائية عميقة منسوجة بعناية في ثنايا القصة بداية من العنوان فالولد (تحت) الأشجار بينما وقف الطائر المسحور ينوح (على) غصن عال، أي أنه وقف (فوق) وما بين الحدين تكمن القصة ..القصة التي قال البعض إنها قصة للأطفال بينما قال آخرون إنها للكبار ، وفي اعتقادي أصاب الفريقان...فالقصة تماما كالأشجار... التي تضم إليها ال (تحت) وال(فوق) الجذر والغصن... السماء والأرض ... الثبات والحرية ..

الطّائر المسحور ظلّ ينوح على الغصن العالي : (( يا جوختي . يا جوختي !! )) ..

الطائر المسحور ..والولد الوحيد.ثنائية أخرى طائر/أمير فقد ملكه، وفقد كيانه الحقيقي، وفقد قدرته على المقاومة لانغراس المسلة في لحمه الحي .. والولد الوحيد الذي سكنته حكايات الجدة ( والجدة دائما ترمز للجذور، للقدم وللأرض والتراث ) وهو ما يدل على أن الطرفين "الطائر فوق، والولد تحت " تسكن كلاً منهما آلامُه المضنية، وكلاهما يبحث عن شيء ما... وكلاهما يرتبط بالآخر كما الدائرة، وهذا ما سنكتشفه في نهاية القصة التي تحيلنا للبداية....

والولد الوحيد تحت الأشجار، سمع نواح الطّائر الحزين، فحزن لحزنه، ولعن في سرّه العجوز السّاحرة التي خدعت الأمير، فسرقت عباءته الجوخ، وسحرته إلى طائرٍ سيظلّ يبكي عباءته إلى ما شاء الله !! ..

ربط النواح ما بين الولد والطائر فكلمة (سمع) شكلت هنا حبلا خفيا ربط أحدهما بالآخر بقوى أكبر منهما، فالسمع والأصوات وانتقالها بعض من كيان الطبيعة، لكن (حزن لحزنه) تقدم نحو الآخر بإرادة واعية (لعن في سره) فعل آخر ممعن في الإرادة ونام في الدلالة على الرفض...
الساحرة تحيلنا إلى ذلك العدو القليل الحجم لكنه قوي المكر والجريمة... فالساحر دائما شخص بغيض ممعن في الشر وقادر عليه، ولكن شريطة ضعف الآخر وغفلته.. أليس هذا ما حدث ؟؟ ما قالته التواريخ والأحدات... لننظر إذا في مفردات القصة (خدعت الأمير/سرقت عباءته/سحرته إلى طائر) الخداع ثم السرقة ثم السحر... أفعال في غاية الإتقان ...أوصلتنا إلى ما نحن فيه الآن ...لا يستطيع إنسان أن يخطئ الدلالة السياسية التي قامت عليها القصة ..بذكاء شديد جعلت البعض يغبن القصة ويظن أنها قصة عادية أو هي فوق العادية بقليل...

الولد الوحيد بحث عن الطّائر المسحور بين الأغصان، ليرى تاجه الملكيّ . قالت الجدّة – كما يتذكّر الولد – في ليلة شتويّة عاصفة، وهم حول الموقد المتوهّج بجمر الزّيتون : إنّ الطائر المسحور جميلٌ ككلّ الأمراء، وإنّ السّاحرة الملعونة نسيت تاج الأمير قبل أن تسحره، فظهر فوق رأسه على شكل ريشات ذهبيّة رائعة !!

يا جوختي ... يا عباءتي ... تلك الكلمة البسيطة لكنها مخادعة وذكية ... فالطائر الحزين ينوح على عباءته والعباءة ستر للجسد ولكنها أيضا عندما تكون لأمير تكون سترا للروح أي للملك الذي يشكل كيان هذا الأمير... وفعل النواح هنا فعل ضعيف وعاجز نسبه للأمير الذي رغم أنه مسحور، إلا أنه مازال يحتفظ بتاج ملكه لكنه تاج تحول إلى ريشات ذهبية.. ريشات تدل على الملك لكنها لا تشكله ...وقد بقي لأن الساحرة نسيته !

فجأة، سمع الولد صوت الطائر المسحور فوق رأسه تماماً، فميّز الحروف بوضوح كبير، ووجد نفسه يُردّد مع صوت الطّائر الحزين : (( يا جوختي . يا جوختي !! )) ..

فجأة... ترى هل هي حقاً فجأة ؟؟؟ الطائر المسحور أصبح فوق رأسه مباشرة، أي أنه تحرك وطار واقترب... قام بفعل يحتاج لزمن فلماذا الفجأة ؟ قد تكون فقط للدلالة على الإدراك فالفعل تم على مراحل لكن الإدراك تم فجأة .. كما اندلاع الانتفاضة التي يظن البعض أنها فجأة لكنه فعل تحرك في النفوس فترة طويلة احتاج لزمن كما حركة الطائر المسحور ذاته..

((وجد نفسه يردد مع الطائر المسحور)) أتراها إحالة إلى ما حدث في الانتفاضة الأولى ؟؟؟ نعم ... لقد استطاع النضج الذي سرى في النفوس أن يوحد النضال ولا يفرق بين كبير وصغير ويجمعهما معا في الانتفاضة الأولى، إذ كان الجيل الجديد يشارك ويقترب بخطى حثيثة مع الجيل الأقدم لكن....

الطائر المسحور سمع صوت الولد، وأحسّ بنغمة الحزن فيه ، فرفرف فوق رأسه قليلاً، ثمّ حطّ على الغصن الواطئ القريب من يد الولد ..

عندما سمع الطائر المسحور صوت الولد وأحس بالحزن فيه، عندها توحدت الروحان، عرف كل منهما مايريد بصرف النظر عما يعيشه، فالولد الذي يحن إلى قصص الجدة والطائر الذي ينوح على ملكه، كلاهما تقمص الآخر وسعى للوصول إليه عبر تبادل الإحساس الذي ربطها بالفعلين (سمع/حط - على الغصن القريب) وكأن الصوت ثم الحركة خطوتان في التحام هذين الشخصين، وكأن القصة وصلت في هذا الجزء إلى نوع من الالتحام، التحام الفوق بالتحت، الطائر بالولد، الكبير بالصغير، الروح والجسد، ...حركة الطائر دليل على أنه توقف عن فعله العاجز (النواح) ليتقدم نحو فعل حقيقي، الطائر تقدم نحو غصن واطئ... أي أنه اقترب من الأعلى إلى الأسفل، من الروح إلى الجسد، من الحلم إلى الفكرة ... واليد هنا لها دلالة كبيرة فهي لم تكن اليد التي عادة ما يهرب منها الطائر لأنها تمثل له ( لو كان طائرا حقيقيا ) الأسر... ولكنها هنا تخلت عن الصورة الحقيقية كما الطائر لتمثل الدلالة على الفعل... والتنبؤ به

ابتسم الولد للطائر المسحور، وأحنى له رأسه باحترام عظيم :
- مرحباً سيّدي الأمير ..
- أهلاً . أهلاً أيّها الصّديق .


ابتسم الولد، وأحنى رأسه باحترام، هنا اقتربت الشخصيتان من بعضهما ليس بالحوار فقط وإنما بدلالة كل كلمة فالابتسامة دائما دليل فرح حقيقي عميق، الابتسامة هنا تشبه فعل (سمع) كلاهما رابط ما بين الشخصيتين، الحوار القليل (سيدي/صديق) فالسيادة تدل دائما على السلطة وعلى ما تمثلها من قوة والصداقة تدل على التعادل والتفهم... إذا هنا في هذا الحوار البسيط يضع لنا الجبور شكلا عميقا لما يجب أن يكون عليه الوضع ما بين السلطة والشعب، ما بين الحاكم والمحكوم، ما بين الأمير وشعبه، ومحبة الولد وإخلاصه لفكرة الجدة وإيمانه بِها دلالة على أن هذه السيادة يجب أن تكون عن قناعة واختيار حقيقي...

تكلّم الطائر المسحور بلغة الإنسان، فاندهش الولد، وفرح كثيراً؛ إذ تأكّد من صحّة رواية الجدّة ..

تكلم الطائر المسحور بلغة الإنسان، اندهش الولد، وفرح كثيرا إذ تأكد من صحة رواية الجدة، نعم الولد يجب أن يفرح لأن الجدة لم تقل سوى الحق، وأن الطائر هو حقيقة أمير مسحور، الجدة التي مثلت تراثنا الذي نؤمن به ولا يخذلنا أو يتحول إلى خدعة كبيرة، والطائر هو حقا ملك ينتظر من ينقذه ويعيد إليه مكانته، هل هذا ما نحتاج له ولغرسه في أطفالنا ؟ نعم هو كذلك ورغم أن هذا العمق الذي وصلت إليه القراءة قد يعارضه البعض ويترجمه بشكل آخر بعيد كل البعد عما وصلنا إليه، لكن وفي هذه القصة ما وصلنا إليه من حقائق كان نتيجة حتمية لما قامت عليه القراءة وعمق الكلمات حتى هذا الجزء من القصة.

قال الولد للطائر المسحور :
- حدِّثْني يا سيّدي الأمير بحكايتك .
تنهّد الطائر المسحور من أعماقه، وفاضت عيناه بالدّموع التي تحوّلت، فور سقوطها، إلى دررٍ رائعة أدهشت الولد أكثر فأكثر، وقال :
- أخيراً وجدتك أيّها الصّديق !! ..
فتساءل الولد بفرح :
-أكنتَ تبحث عنّي ؟!!


الولد الوحيد، لم يعد وحيدا، لقد استطاع أن يصل إلى معنى لوجوده وحيدا تحت الاشجار، استطاع أن يحول خياله إلى واقع عبر تحول الحكاية إلى حقيقة، هنا الحوار أصبح أكثر التحاما بالحدث فهو شكل التحام الثنائيات ووصولها إلى صيغة مشتركة، فالبحث لم يكن فقط من الولد الوحيد بل أيضا من الطائر على الغصن العالي... لأن أحدهما لا يكتمل إلا بالآخر، واتحادهما يهزم الشر والسحر، كلاهما انتظر الآخر وآمن به ...كلاهما وجد في الآخر خلاصة،

هزّ الطائر المسحور رأسه بالإيجاب، ورفع جناحيه وقال :
- هنا، تحت هذين الجناحين، غرزت العجوز الساحرة مسلاّتها اللّعينة التي صيّرتني طائراً كما ترى، والتي لن يخرجها أحدٌ سواك !!


لن يخرجها أحد سواك، تلك المسلات المغروسة في اللحم الحي... هذه هي الحقيقة التي وصل اليها شعب بكامله، شعب أعزل لكنه يقاوم ...كلمة (أحد سواك) هي النتيجة الحتمية التي توصل إليها الشعب الفلسطيني بعد الخذلان الذي واجهه من أمته العربية والإسلامية، وإن أردنا أن نعمق الفكرة سنقول: إن الإيمان وحده والاقتراب من الروح كما فعل الولد الوحيد تحت الأشجار هو الحل الوحيد للخلاص... الصدق مع الذات والإصغاء إليها والإيمان بها هو وحده الخلاص والتحرير الذي نسعى اليه ...

اقترب الولد من الطائر المسحور، ودقّق النّظر تحت الجناحين، فرأى أطراف المسلاّت المغروزة في اللّحم الحيّ ..
- ها هي . ها هي !! ..
هتف الولد بصوته الرّفيع وقد غمره الفرح، ومدّ يديه يريد نَزْع المسلاّت، لكنّه، وفي اللّحظة ذاتها، وجد نفسه ينتبه إلى بقيّة ضوء النّهار ..
كانت الشّمس على وشك المغيب، وكان الولد وحده تماماً تحت الأشجار، بينما الطائر المسحور ما يزال على الغصن العالي ينوح : (( يا جوختي . يا جوختي !! ))


نهاية مذهلة ... نهاية ذكية بامتياز... نهاية جعلت القصة تدور لتعود لبدايتها، هل هذا ما رآه الكاتب في التاريخ الذي كتب عنه ؟ في الشعب المتروك وحيدا ؟؟ في تلك الثنائية التي انقسمت عميقا، تعددت والتحمت في جزء لكنها عادت لتنفصل إلى ثنائية من جديد، قد أكون عمقت القراءة لتصل إلى تسميات محددة وظروف سياسية محددة ومكان محدد هو فلسطين ... قد أكون فعلت ذلك لأن أصل الكاتب وانتماءه ألقيا بظلالهما على القراءة، لكن ولكي أكون عادلة في القراءة سأقول إن هذه القصة تحتمل قراءات أخرى متعددة فلسفية ربما، اجتماعية، وحتى قراءة تحتمل البساطة التي توحيها قصة جميلة بطلها طفل وحيد وطائر مسحور وساحرة شريرة، القصة توخت البساطة الشديدة في الكتابة لكنها عميقة جدا في الدلالة ...قصة أستطيع أن أقول إنها من القصص الجميلة جدا التي استطاعت بحذاقة شديدة أن تدوّر النص وتلقي في ثناياه بذورا متنوعة لكنها كلها حتما بذور قابلة للنمو.

الشاعر خالد الجبور.. أغبطك على نصك هذا الذي أوجز بكلمات شفافة معنى أن تكون شاعرا .. وإنسانا يحلم ..

ليست هناك تعليقات: