الجمعة، 13 يونيو 2008

أشياء (أمجد ريان) القديمة التي تفر في الهواء


هذه هي المرة الأولى التي اقرأ فيها للدكتور أمجد ريان... أعجبني الأسلوب المختلف وطريقة العرض التي تتخذ أسلوبا مميزا وبعيدا عن التقليدية لتقدم لنا ما يشبه الجرس عندما يقرع لإيقاظنا من غفلة ما... (عيون صقرية) و(أشياء قديمة تفر في الهواء) تحمل نفس الطابع المميز للكاتب وليس من العسير أن نربطهما معا..لو لم نعلم أن كاتبهما هو نفسه...

في هذه القصة القصيرة التي تقرأ بطريقتين مرة من الأعلى للأسفل ومرة بالعكس أي تقرأ من نهايتها عودة للبداية ليكتمل الاستيعاب الرمزي لما طرحة الكاتب.


نحسُّ بنشوةٍ عارمة .. كلُّنا ، أنا وأصدقائى .. نلتفُّ حول المنضدةِ شبهِ المستديرة .. ونتبادلُ أجملَ الكلام ..


تبدأ القصة بفعل (نحسُّ) وهو فعل داخلي بالغ الرقة وكأن القاص أراد أن يوجه عنايتنا منذ البدء أن ما سيجئ هو حدث شعوري بالغ الرقة والرهافة..فأتبع الفعل (بنشوة عارمة) ليدخلنا بقوة إلى هذه الكتابة التي تقلب في النفس البشرية أكثر بكثير مما قلَّبت الشخصية أشياءها القديمة... (كلُّنا، أنا وأصدقائي) هذه الجملة تشبه أسلوب الكاتب بكل ما يجيء (كلُّنا) كلمة جامعة وشاملة لكنه بعد ذلك يفصلها (أنا وأصدقائي) وهذا ما سوف يقوم به فيما بعد، ( المنضدةِ شبهِ المستديرة) هنا جملة رمزية تعبر عن الأرض فلو كانت منضدة حقيقية فهي إما مستديرة أو بيضاوية، لكنها (شبه مستديرة) فالأصدقاء وهم يلتفون حول المنضدة ويستعيدون الذكريات كأنهم يقفون في صورة نعرفها ونعيها بل ونجلس معهم ونحسُّ بشعورهم أيضا.


كلامَ الذكريات .. ذكرياتِ الطفولةِ والصبا .. أجملُ ذكرياتِ الإنسانِ هى ذكرياتُ الطفولةِ والصِّبا .. كنا نضحكُ منطلقين صادقين ..

الذكريات التي يتحدث عنها القاص ويفصلها تفصيلا قد يظنه البعض استرسالا وإطاله أشعر به هنا وكأن كل صفة من صفات هذه الذكريات رمز لمرحلة عمرية وحياتيه.. يتمناها القاص ويتمنى العودة إليها، إضافة إلى أن هذا الأسلوب أسلوب خاص بالقاص نفسه يميزه عمن سواه..

نتذكَّرُ أيامَ الفوضى الجميلة .. أيامَ الحبِّ العذرىِّ والبَساطة .. أيامَ المِزاجِ الرائق .. كنا نتكلّمُ كلُّنا ولِفرطِ فرحتِنا ببعضِنا .. وبلقائِنا ..

الفوضى الجميلة، الحبُّ العذري، المزاج الرائق، كل هذه الكلمات الموحية تعبر عن مراحل عمرية وحياتيه خاصة، مرحلة الطفولة وفوضاها الجميلة، المراهقة وقصص الحب الجميلة، الشباب وأيامه الرائقة، الكلام في وقت واحد يعبر عن المرحلة بعموميتها، فالأصدقاء الأقران يعيشون ذات القصص والواقع والأحلام، وكأنهم يتكلمون في وقت واحد، ومع ذلك فالكل مصغ والكل متابع

ولفرطِ فرحتِنا بحديثِنا .. كنا نتكلَّمُ فى الوقتِ نفسِه .. نتكلّمُ كلُّنا فى الوقتِ نفسِه .. أو يتكلمُ اثنانِ مِنَّا فى الوقتِ نفسِه .. لكنَّنا وبالرغمِ من ذلك .. كنَّا نفهمُ كلَّ ما يُقال .. لأن الذى يستمعُ فى هذه اللحظاتِ ليست الآذان .. بل القلبُ هو الذى يسمع .. كان حديثُنا تتخلَّلُه الابتساماتُ الرقيقة .. والإيماءاتُ المنتشيةُ الذكيَّة ..

في مرحلة ما من مراحل العمر التي نستعيدها في هذه القصة نشعر بكل هذا الوصف الحميم وكأننا نعيشه ونتمثله أمامنا، الكلمات هنا لم تكن تعبر عن جو عام ومشاعر وصفية ، وإنما كانت تنغمس في روح تلك المرحلة الجميلة من أعمارنا معا..وتأخذ منها دلالات تبذرها في داخل النص، فالكلمات هنا التي تقدم وصفا خارجيا لاجتماع الأصدقاء وتحدثهم في الذكريات هي ذات الكلمات التي تحرك عمق الحدث وتستدعي لحظات غائبة بشفافية بعيدا عن التعقيد أو الاسترسال.

وعندما جاء الشاى كنّا كلّنا متحلقين حوله .. وضعنا السكَّرَ فى الأقداح .. الأقداحِ التى هى فناجيلُ كلاسيكيَّةٌ كبيرة .. ناصعةُ البياض .. تُصدرُ أصواتٍ تشبهُ أصواتِ الأجراس .. كلما أمسكْنا الفناجيل .. وكلّما وضعناها على الأطباقِ الصغيرة .. إنها تُصدرُ هذه الأصواتِ لأنها مصنوعةٌ من الصينى النقىِّ الصافى .. وعليها رسومٌ خلاَّبةٌ لحدائقَ غنَّاء .. تمشى فيها الأميرةُ الجميلة .. رسومٌ رائعةٌ حول الفناجيل . ونحن نرتشفُ الشاىَ فى فَرَحٍ وفى حبور ..

الشاي الذي وضعنا فيه قطع السكر والفناجيل والرسومات وانعكاسها كلها متابعة دقيقة لمفردات الإنسان من جسد وروح وحياة وأحلام، متابعة رائقة وبكلمات جميلة ستشكل مع الجزء الثاني من القصة مجمل حياة الإنسان لتنقل بُعدا جديدا للقصة أشعر به بعيدا عن الكلمات وهو ذلك البعد الذي يتوخى التأثير في شعور القارئ، فالكلمات في البداية تشعرنا بالفرح والصفاء بعكس ما سنشعر به في الجزء الثاني وهو الجزء الذي استخدم فيه الكاتب كلمات من مثل (القلق، اليأس، التراب، الخوف، الفوضى..الخ) وهذا يحتسب للكاتب فكل قراءة للقصة تقشر عنها بُعدا جديدا تكون في صالح القاص وقصته دائما.

ولكننى عندما تذكرتُ ماكنتُ قد نسيتُهُ منذ الصباح .. قمتُ على الفور .. واتجهتُ نحو الحجرةِ الداخليّة ..

هنا سأتوقف عند جملتين (تذكرت ما كنت قد نسيته) و(الحجرة الداخلية) القاص هنا لم يفصح عمّا نسيه لأن الإفصاح عن ذلك الشيء يحجمه ، والقصة لم ترد هذا ولم تسع إليه فهي قصة تعبر عن الكل في سرد يخص الجزء...(كلنا، أنا وأصدقائي) هي قصة عامة تعبر عن القارئ مثلما تعبر عن الكاتب، والقيام والاتجاه للحجرة الداخلية رغم أنه حسي في القصة إلا أنه في القراءة التي تخصها هو معنوي، فالحجرة الداخلية هي قبو في الذاكرة وفي الحياة يحمل ما تحمله تلك الحجرة الداخلية من أشياء نسيناها ونفتش عنها دون جدوى.

أخذتُ أنظرُ ذاتَ اليمين وذاتَ اليسار .. نظرتُ على المنضدةِ وتحتَها .. ورفعتُ القميصَ من على المِقْعد .. لأنظرَ تحتَه .. ثم سحبتُ المِقْعَدَ وجعلتُهُ بالقربِ من "الدّولاب" .. ووقفتُ عليه فصار وجهى فى مستوى أعلى "الدّولاب" .. وبدأتُ أتفحَّصُ أعلى "الدّولابِ" بقلقٍ شديد .. مدَدْتُ يدى لأقلّبَ فى الأشياءِ التى فوقَ الدولاب ..

الحدث المروي في القصة، حضور الأصدقاء وحديث الذكريات والبحث والاسترسال فيه حدث حسي يتحرك ضمن شروط القصة وزمانها المحدود لكن استخدام الفعل بذكاء وإدارة هذا الحدث لاحتوائه بعدا أكبر بكثير من بُعده المادي الحاضر جعل القصة أجمل وأعمق واكثر قدرة على جذب القارئ بكل مستوياته.

وقد استبدَّ بى القلقُ واليأس .. أخذتُ أرفعُ الأشياءَ المكدَّسةَ التى تراكمتْ بمرورِ الزَّمانِ فوق "الدّولاب" .. شعرتُ بالخوفِ وبالذُّعر .. وأخذتُ أرفعُ الأشياءَ المركونةَ فوقَ الدولاب .. الأشياءُ التى تُغطيْها طبقاتٌ سميكةٌ من التراب .. الترابِ الدُّهنىِّ الغليظِ الذى يضايقُ أطرافَ الأصابع .. لقد لوَّث الترابُ أصابعى .. وصارت يداى مليئتين بلونِ الغبار الأسود .. ولازلتُ أبحثُ وأقلِّب ..

ترى كم منا قام يبحث عن شيء نسيه فإذ به يصطدم بكل هذا الغبار والأتربة واللزوجة المقيته ؟؟ كم جلسنا مع أنفسنا نستذكر لحظاتنا الجميلة فإذ بملامحنا تجمد وأعصابنا تتوتر ونحن نمر على طرقات في الذاكرة نسيناها أو تناسيناها ؟؟ كم أصابنا الفزع ونحن ندرك أننا نسينا أجمل ما فينا ومهما بحثنا عنه لن نجده لأن الزمان لم يترك لنا فرصة أخرى ؟؟؟
هل عليّ أن أضع تخمينا لما نسيته الشخصية ؟؟؟ لا وليس على القاص نفسه أن يفكر بهذا ، لأن كلاّ منا يدرك هذا الشيء وسوف يبحث عنه في لحظة ما وسيصاب بالفزع وهو يرمي بالأشياء فتتناثر على أرض الذكرى ، وتحدث فوضى عارمة وإحباطاً مريرا .

أصدقائى صاروا ينادوننى برِقَّةٍ من الصالة .. وأنا لا أردُّ عليهم لفرطِ انهماكى فى البحثِ العنيف .. قذفتُ بالأشياءِ الموضوعةِ فوق "الدّولاب" إلى أرضِ الغرفةِ تباعاً .. أصدقائى ينادوننى بأعلى صوت .. وأنا أستخرجُ الأشياءَ من فوقِ "الدّولاب"ِ .. وأقذفُ بها على أرضِ الغرفة .. حتى صارت أرضُ الغرفةِ مزدحمةً بفوضى الأشياء .. صارت أرضيَّةُ الغرفةِ ذاتَ منظرٍ بَشِعٍ يُفْزِعُ العيون .. أصدقائى ينادوننى من الصَّالةِ بأعلى ما يملكون من صوت ، وأنا أقذفُ بالأشياءِ على أرضيَّةِ الحجرةِ بعصبيّةٍ وبسرعةٍ وبقوةٍ لم تعرفْها ذراعاى من قبل ، وعضلاتُ وجهى كانت منقبضةً بشدّه .. وحُنْجُرتى تُخرجُ هذا الصوتَ المُتَّصلَ الذى يُشبهُ النَّحيب .

ما زلنا في غياب الذكريات الجميلة ، لكن الشخصية نفسها بحثت أكثر في ثنايا الذاكرة الداخلية لتستخرج كل ما نسيته ، فأورثها ذلك تعبا شديدا، كثيرا ما نجلس مع الأصدقاء ، ثم تأخذنا الذكريات فجأة فإذ بنا نغيب عن حاضرنا ولا نستدرك وجودنا الحقيقي إلا بنداء قد يأتي رقيقا في البداية ثم حادا ممن حولنا، لكن (الصوت المتصل كالنحيب) أخرج الشيء الذي نسيناه إلى العلن..

القصة بدأت بشعور بالنشوة، وانتهت بصوت كالنحيب، انقسمت إلى جزئين الأول مفعم بالحياة والضحك والفرح والجزء الآخر باليأس والقلق والحزن، قالت بكلمات الكثير الكثير مما يقدم لنا قصة جميلة محكمة البناء، الحدث قدم على عدة مستويات الأول الحدث العادي : اجتماع الأصدقاء ، وحديث الذكريات ، وتذكر الشخصية لشيء نسيته ، تبحث عنه وكل هذا لا يستغرق أكثر من عدة ساعات، والحدث المستتر وهو النص المؤول إلى أبعاده الخفية الأخرى.

قصة جميلة وأسلوب مميز .
بقي أن اسأل وبصدق ما حكاية الياء والألف المقصورة في مصر ؟؟؟


ليست هناك تعليقات: